إن كانت أغلب شعوب المنطقة خاضت كفاحاً مشرفاً ضد القوى الاستعمارية إلا أن الحالة الجزائرية تظل في ذلك مثالاً فريداً، من حيث تمادي المستعمر الفرنسي في تحدي رغبة الشعب واستخدامه كافة أساليب القهر والإذلال والتنكيل من جهة، واستماتة الجزائرين واستبسالهم في المقاومة، التي لم تهدأ طيلة القرن والثلث الذي فرض فيه الاحتلال نفسه من جهة أخرى.
هناك مشهد في تلك الثورة كنت كثيراً ما أقف عنده لأهميته وتأثيره ليس فقط على مستقبل الأحداث في ذلك البلد، ولكن أيضاً لأنه مشهد تكرر، وما يزال يتكرر، في لحظات تاريخية مماثلة. كأن الأمر لم يستتب لفرنسا بعد وكأن الأمير الشاب عبد القادر استطاع بحكمة توحيد قبائل الغرب خلف رايته ومبايعته كقائد عام للجهاد ضد الفرنسيين، وتزامنت هذه المقاومة الفريدة والبطولية مع مقاومة أخرى لا تقل قوة وبطولة في شرق البلاد بقيادة مناضل آخر عرف باسم أحمد باي. ولاتساع الحدود الجزائرية واستماتة كل من الأمير عبد القادر وأحمد باي في الكفاح والنضال ضد المستعمر، ولمبايعة أعداد غفيرة من القبائل لهما على الموت، خاصة بعد اقتناعهما بأن الاستسلام لن يعني سوى حياة ذليلة في ظل مستعمر مجرم، لكل هذه الأسباب كانت فرنسا رغم تفوقها المادي والعسكري في وضع لا تحسد عليه، حتى أنها شعرت لوهلة بأنها بصدد فقدان السيطرة على الأمور. لكنها سرعان ما انتبهت لعامل مهم، إذا استطاعت استغلاله، فإنها قد تنجو من هذا التحدي التاريخي الصعب. تمثل هذا العامل في كون أن عدويها اللدودين ليسا على وفاق أو اتفاق، وأن ما يبدو ظاهراً من كونهما يناضلان ضد عدو مشترك، يخفي في حقيقته تنافساً محموماً على زعامة الجزائريين، خاصة أن ذلك التنافس المحموم بين القادة كان سمة متكررة لمراحل الجهاد، ليس فقط في الجزائر، ولكن أيضاً في مناطق متفرقة من القارة الافريقية، حيث يجد الدارس لحقبة الاستعمار هناك، أن أشهر المناضلين أضاعوا الكثير من الوقت والجهد في حروب بينية ومنافسات أهلية، وأن معظمهم قضى على يد قوات منافسة من بني جلدتهم. أما السؤال الذي نحب أن نبدأ به وأن نسلط عليه الضوء هنا فهو: كيف سمحت القوى الإسلامية في ذلك الحين باستباحة الفرنسيين للجزائر، وكيف ارتضت أن تلعب دور المتفرج على البربرية الفرنسية؟ كان هناك جيش محمد علي المصري الصاعد المجاور، وكانت هناك الدولة العثمانية التي كانت لها مكانتها بين دول العالم، كما كان هناك عدد من الدول والإمارات شبه المستقلة في الجوار القريب والبعيد آثرت الحياد.
أحمد باي الذي ظل يقاتل بلا سند لأكثر من سبعة عشر عاماً كتب بنفسه العديد من الرسائل التي يرجو فيها تدخل السلطان العثماني. طلب مده ببعض الانكشارية، أو ببعض السلاح من أجل أن يدافع الجزائريون به عن أنفسهم أو ببعض المال إن تعذّر ذلك كله، تلك المطالبات ظلت بلا جدوى.
لم يكن، بحسب التوازنات الدولية آنذاك، تدخل العثمانيين وارداً، فالدولة التي بدأ الضعف يدب في أوصالها لم تكن مستعدة لخسارة فرنسا، وإلا ستصبح بلا نصير على الساحة الدولية. كان أصحاب «نظرية التوازنات» يخشون من أن تعلن فرنسا الحرب على العثمانيين ويتخيلون سيناريو مرعباً تتوحد فيه أوروبا ضدهم، ما قد يؤدي لتفتت الدولة التي تكونت عبر السنين، بل القرون.
هل كان موقف السلطان العثماني صائباً وهل كانت نظرته موضوعية؟ قد تختلف الإجابة هنا بين قراء تلك الفترة. المهم هو أنه كان يرى في استعداء فرنسا آنذاك حماقة قد تودي بحياة سلطنته. لكننا إذا وجدنا للسلطان العذر في عدم تحريك الأساطيل والدخول في مواجهة مباشرة ضد أصدقائه الفرنسيين، فإنه يصعب علينا فهم رفضه تقديم أي نوع من الدعم المستتر لأشقائه وبني جلدته من المقاومين الجزائريين، عن طريق طرابلس الغرب مثلاً، خاصة أن أهل المنطقة كانوا بارعين في عمليات التهريب.. هذه النقطة تقودني للتشبيه بما حدث في سوريا، حيث لم تكتف دول الجوار القريب والبعيد بعدم التدخل لنصرة الشعب الذي يموت أمام أعينهم، بل تمادت، بحجة أو بأخرى، لتمنع دخول أي نوع من السلاح للمقاومين والمدافعين عن أنفسهم وأعراضهم ضد تحالفات التوحش. رغم الوعود وعبارات التعاطف التي خرجت من بعض السياسيين في المنطقة فإن الدعم بالسلاح كان لا يذكر، وحينما فقد الثوار الأمل اكتفوا بطلب مدهم بما يحميهم من قصف الطائرات، أي مجرد أسلحة دفاعية تقيهم نيران البراميل والقنابل المتفجرة، لكن استغاثاتهم ظلت بلا مجيب.
التوازنات الدولية كانت السر الذي منع دول المنطقة بما فيها الدول ذات القوة والتأثير من الانغماس العسكري المباشر لصالح الشعب السوري، هذا ما يبدو واضحاً بطبيعة الحال، أما ما يبدو غامضاً وغريباً فهو امتناع الدول المناصرة عن إدخال أي سلاح للمقاتلين والوقوف بحزم في وجه تهريب أي سلاح لهم، بل رفض غض الطرف عن أي محاولة قد تصب في هذا الاتجاه من أي طرف رسمي أو شعبي.
أما مصر فقد كانت تعيش منذ انقلاب محمد علي وضعاً خاصاً، حيث كانت جزءاً من الدولة العثمانية ومنافسة لها في الوقت ذاته، ما جعلها تحسب خطوات امتداداتها الخارجية بحرص، خاصة أن أسرة محمد علي كانت تواجه استقطابات شعبية مختلفة، حيث لم يكن الأهالي راضين في غالبهم عن جهود «التحديث» التي تبناها، والتي أفرزت وجود طبقات جديدة مقابل عامة الشعب، كالأسرة الحاكمة والقادة الأجانب للجيش وغيرهم، ما ساهم، إضافة لعامل التخبط في السياسات الاقتصادية، في ولادة الثورة العرابية التي دخل زعماؤها في تنافس مع السلطة الحاكمة انتهى بالتدخل البريطاني. هناك شبه آخر بين ما يحدث الآن بما كان يحدث في القرن التاسع عشر وهو المتعلق بظاهرة «الاستفراد»، فالقوى الامبريالية لا تدخل في حرب ضد الجميع في وقت واحد وإنما تأخذ كل بلد على حدة، وبعد أن يكف بلد ما عن نصرة أخوانه، ظاناً أنه يتبع طريق النجاة ما يلبث أن يكتشف أنه وقع في الفخ وتم الانفراد به كما تُفرّد بأخيه ليبقى بلا نصير.
الأمر لا يتعلق فقط بالبلدان، ولكن الخبث السياسي المعتمد على تقسيم المجتمعات نفسها إلى أنصار معتدلين مقابل المتشددين، كان دوره فاعلا في حرف الثورات الجزائرية وإشغالها بمعارك جانبية من قبيل المعارك التي خاضها أحمد باي والأمير عبد القادر وبو عمامة وغيرهم ضد أنصار فرنسا من القادة القبائليين. تلك المعارك والصراعات كان لها دور مهم في إضعاف وتشتيت حركات المقاومة، التي وجدت نفسها محاصرة من أعداء داخليين يفتخرون بالقتال مع الفرنسيين. هذا طبعاً غير الدور الذي لعبه القادة الإقليميون «المعتدلون» كباي تونس الذي كان يقود إقليما صديقاً لفرنسا التي كانت تعتبره حليفاً.
انتبه الفرنسيون كذلك إلى أهمية الدور الذي يلعبه القادة الدينيون واستفادوا بذلك من الفتاوى التي كانت تحرّم الجهاد، مثل تلك التي كانت تحرّم الخروج على الفرنسيين باعتبار أن ذلك إلقاء النفس في التهلكة. أما الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه المقاومون إبان السنوات الأولى فقد كان توقيع الأمير عبد القادر على معاهدة صلح مع الفرنسيين يتعهد فيها بإيقاف أعمال المقاومة على ألا تحاول فرنسا التمدد في أراضي الغرب، التي أصبحت تقريباً تحت سيطرته، وأدت هذه المعاهدة التي أطلق عليها اسم «معاهدة تافنة» إلى خلق حالة مؤقتة من الاستقرار في الغرب الجزائري، لكنها أدت إلى تكثيف فرنسا هجومها على جبهة أحمد باي في الشرق، ما أدى لسقوط حاضرته قسطنطينة وتشتت قواته قبل أن تعود قوات الغزو لتتفرغ للأمير عبد القادر ناقضة اتفاقها وعهدها معه.
الجرائم الفرنسية هذه لا نجد لها شبيهاً إلا في الحالة السورية المعاصرة، فقد وصل الأمر بالفرنسيين حد إبادة قبائل كاملة عن بكرة أبيها واستخدام كافة أنواع السلاح وطرق التعذيب والتخريب. الفارق الوحيد، إن وجد، هو أن تلك الجرائم لم تكن تنقل بالصوت والصورة كما هي جرائم اليوم، ولولا تفاخر الفرنسيين واهتمامهم بتوثيق ما قاموا به من بشاعات لما وصلنا منها اليوم إلا القليل، فالاستعمار لم يهدف فقط لفصل الجزائر عن محيطها العربي والإسلامي، بل تمادى ليفصل الأقاليم بل المدن نفسها عن بعضها بعضا بحيث يتطلب الانتقال من منطقة لأخرى داخل الجزائر نفسها تصريحاً فكانت الأخبار والحال هذه تصل متأخرة ومشوشة ما خدم كثيراً سلطة «الاستخراب».
من دروس المقاومة الجزائرية، وما أكثرها، أن العدو لم يكن لينتصر لولا وجود عملاء بيننا. ومن دروسها أيضاً أن الخذلان والعار والهزيمة سرعان ما لاحقت جميع من خانوا المقاومة المشرفة.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح
السلام عليكم
شكرا سيدي الكاتب(د. مدى الفاتح) لقد أوزجت وقارنت فكنت االسراج الوهّاج الذي كشف ظلومات لقراء القدس العربي عن حالنا وأحوالنا التي ضاعت على موائد الحكّام عبر الزمن بداية من سقوط الخلافة مرورا بالمقاومة الجزائرية وصولا الى “حلب الشهيدة” التي ذبحت بإسم الديمقراطية والإنسانية والأخلاق لتصبح “أثر بعد عين”…
أمّا فيم يخص الأعراب وعدم تحركهم إتجاه عدوهم المشترك فذاك مردّه إلىك
1-التشبث بكرسي السلطة
2-غرورهم بوعود وهمية من أعدائهم
3-التسطيح الفكري الذي لا يعدو أن يصل إلى رأس أنفه ولا يمده بعيدا …(نظرا…)
4-التخدير السياسي الذي رضعوه من الأعداء وحسبوه حليب الأم..
5-إلخ….(هناك س أس ن)من المعوعات والمثبطات التي يتحلى بها حكّامنا ممّا جعلتهم رهائن أعدائهم ونسوا أن (الموت واحد)
ختاما نقول لأنفسنا ولهم: حياة العز دقيقة خير من حياة الذل دهرا
ولله في خلقه شؤون
وسبحان الله