منعت وزارة الداخلية المغربية خياطة وتسويق وبيع «البرقع» في المحلات التجارية، وبدأت دوريات الوزارة بتنفيذ القرار في الأسواق والمتاجر، حسب أخبار تداولها ناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي والصحافة المحلية،
خبر له دلالة مهمة لأنه يأتي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الاسلامي في المغرب.
من جانب اخر تناقل ناشطون عراقيون في شبكات التواصل الاجتماعي فيديو لرجل دين شيعي مقرب من حزب الفضيلة الاسلامي المشارك في الحكومة والبرلمان، يتهجم فيه على طلبة الجامعات ويصف الشباب الجامعيين بصفات قبيحة ويطالب وزير التعليم بفرض القوانين الشرعية في الجامعات العراقية. حادثتان مرتا في الاسبوع الماضي أثارتا من جديد جدلا حول علاقة الملبس بالسياسة، من خلال النظر إلى الامر من ثقب الاحكام الفقهية.
الملابس بحسب هيغل، هي ما يصبح به الجسم دالاً، اي يحمل دلالته الخاصة وفق سيميولوجيا تعارف عليها المجتمع، إشارات تميز اجسادنا بعد اكتسائها بدلالات تحيل الى اشياء عديدة منها حالتنا الاجتماعية، أو وضعنا النفسي، عبر ترميز حالة الحزن او الفرح من خلال ارتداء الملابس الخاصة بكل مناسبة. كما أن الأزياء ارتبطت بالمكانة الاجتماعية والسياسية للافراد لفترات زمنية طويلة، إلا أن ما عرفته المجتمعات الأوروبية من إصلاحات وثورات، جعلت اللباس فيها يفقد شيئاً فشيئاً كثيراً من هذه الدلالات، وأن اتجاهات جيدة أخذت تسري باتجاه توحيد الملبس على عدة نطاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية وحتى جندرية.
وقد قدم باحثون قراءات تتبعت موضوع الملابس وعلاقته التاريخية بالهوية السياسية وتمثلاتها، فأشاروا الى ان مصممي الأزياء الاوروبيين صمموا موضة الصدر المكشوف في الفساتين النسائية في عصر النهضة، كرد فعل يحمل دلالة التحرر من قيود العصور الوسطى ذات النمط الاقطاعي المتحالف مع الكنيسة، التي كانت تشجع ما عرف برباط الصدر، الذي يمثل رباطا من قماش عريض يشد بقوة على صدر المرأة في محاولة لاخفاء اي بروز قد يثير الشهوات.
وفي مضمار علاقة السياسة بالملابس يمكن ان نقرأ القصص التي تناولها الادب الشعبي حول ملوك وامراء أوروبا في العصور الوسطى، الذين كانوا يتغيبون عن زوجاتهم معظم أيام السنة فى الحروب مما حدى بهم الى اختراع (حزام العفة) لضمان عفة نسائهم المتروكات وحيدات في قصورهن، إلا أن إلبرت كلاسون الاستاذ بجامعة اريزونا يذكر في دراسة حديثة له انه بحث الامر وفتش في متاحف اغلب دول اوروبا عن نموذج حقيقي لهذا النوع من الاحزمة ولم يعثر عليه، وأن اغلب النماذج الموجودة كانت تستخدم لاغراض السخرية في المسرح الشعبي للاستهزاء من ملوك وامراء تلك الحقبة.
واذا نظرنا الى الملابس محاولين تقديم قراءة اجتماعية لرمزيتها السياسية في مجتمعاتنا الشرق اوسطية، سنجد ان تغيرات جذرية حدثت في هذه المجتمعات في القرن المنصرم، فقد شهدت المنطقة تغيرات على شكل هزات نقلت المجتمعات من وضعها التقليدي، لتدخلها بقوة الى فضاء الحداثة، حيث انهارت انظمة سياسية وتشكلت كيانات جديدة، على اثر تفكك الامبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على الشرق الأدنى، ويشير عدد من الباحثين الى ان طبيعة الملابس السائدة في تلك الحقبة كانت تؤشر بعمق لطبيعة المجتمعات كونها مجتمعات اسلامية، تطغى فيها الهوية الدينية، لتكون المحدد للهويات الاجتماعية والسياسية، في اشارة الى انتشار الحجاب والنقاب، في الملابس النسائية مقابل انتشار الملابس التقليدية في الازياء الرجالية، لكننا نجد من خلال الوثائق والصور الفوتوغرافية لتلك الحقبة ان الاغلبية المسلمة تشبه الى درجة التطابق سلوكيا الاقليات الدينية الاخرى كالمسيحيين واليهود، والأقليات الدينية الاخرى من حيث الملبس والتعامل الثقافي مع المظهر، مما يعني ان شكل الملابس أمر اجتماعي وليس له علاقة بالدين، وقد ذكر المؤرخ فيليب حتي، وهو ممن عاشوا التحول من نمط الحياة في ظل الدولة العثمانية الى الحداثة نهاية القرن التاسع عشر، حيث كتب في تاريخ لبنان «أثناء السنوات العشر التي احتل فيها المصريون سورية الكبرى تغلغل النفوذ الغربي إلى داخل البلاد، وأصبحت بيروت الميناء الرئيس، وهو وضع احتفظت به إلى يومنا هذا». إلى أن يقول في وصفها «لم يكن مألوفًا أن يُرى الرجل متأبطًا ساعد امرأة خارج البيت، وقلّ أن يرى المرء في شوارع بيروت رجالا أوروبيين يرتدون ملابسهم الغربية، وإذا تجرأت امرأة غربية – زوجة قنصل أو تاجر- أن تنتقل خلسة من بيت إلى بيت فإن ذلك كان أمرًا يسترعي انتباه الناس، وفي جميع المدن اللبنانية كانت المرأة النصرانية تغطي وجهها بحجاب، كما تفعل المرأة المسلمة».
لكن ما تجدر الاشارة له ان التميز كان واضحا بين المدن والريف والبادية من حيث المظهر وشكل الملبس، فالمرأة الريفية والبدوية لم تكن ترتدي البرقع او النقاب، كما هو حال المرأة المدينية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كما انها كانت تخرج للعمل في الزراعة والرعي والبيع والشراء وهي ترتدي ملابسها التقليدية مع غطاء الرأس دون ارتداء نقاب أو برقع، كما هو الحال في المدن، حيث يندر خروج المرأة، واذا خرجت فيجب ألا تظهر ما يمكن ان تعرف به. اما الرجال فقد كان انتشار الملابس الاوروبية في المدن اكثر من الريف في دلالة على تأثرهم بالمثاقفة، نتيجة الاحتكاك بقيم الغرب التي اخذت بالانتشار في المدن في تلك الفترة.
لقد ربط العديد من الباحثين الاسلامويين بين (مؤامرات) الغرب وانتشار السفور في الدول الاسلامية، لكن القراءة المتأنية لما حدث تنبئنا أن حركات التحرر الوطنية ارتبطت بشكل واضح مع نشاط الحركات النسوية المتزايد، والمثال الاوضح كان في حركة السفور المصرية التي قادتها شخصيات نسائية لها دور وطني واضح في الوقوف بوجه الاحتلال البريطاني، مثل صفية زغلول زوجة الزعيم سعد زغلول، وهدى شعراوي وزميلتها سيزا نبراوي، حيث يمكن ان نؤرخ قراءتنا الثقافية لعلاقة الملابس بالسياسة بشكله الابرز المتمثل بحركة السفور في مصر، التي قادتها هذه الشخصيات النسائية مع اندلاع ثورة 1919 التي شهدت بداية الحركة النسائية السياسية في مصر، عندما انتشر الحديث عن رفض الحجاب وحق المرأة في عدم ارتدائه، وكانت البداية في ميناء الإسكندرية عند عودة سعد باشا زغلول من منفاه في جزيرة سيشل وقد ترسخ الامر مع تشكل الاتحاد النسائي عام 1924 على يد هدى شعراوي وحركتها المطالبة بحقوق المرأة.
في هذه الفترة تحديدا نقل مصطفى كمال اتاتورك تركيا الخارجة حديثا من رماد الدولة العثمانية عنوة ليدخلها عهد الحداثة، وكان من ابرز قرارات الحكومة الجمهورية الجديدة بعد الغاء نظام الخلافة العثمانية عام 1924 ما تعلق بالملبس، فرغم ان اتاتورك لم يمنع ارتداء الحجاب قانوناً، لكن ظلت سياسة الدولة تشجع على خلع الحجاب، ولكن دون منع او تقييد أو تجريم، سواء في قانون القبعة 1925أو قانون القيافة فورمة 1926 أو قانون الملابس الدينية 1934- هذا القانون أشار لمنع اليشمك والحبرة والبرقع، ولم يمنع تغطية الشعر – وباتت الفكرة التحديثية الجدية تشجع على خلع الحجاب دون تجريمه، في دلالة واضحة للخروج من الشرق القديم للدخول في عهد الحداثة الاوروبية. كذلك كان الحال في ايران الحديثة، حيث تأثر مؤسس الدولة البهلوية الجديدة التي اطاحت بحكم القاجار في عشرينيات القرن العشرين بقرارات اتاتورك في تركيا، فقد منع رضا شاه بهلوي عام 1936 الحجاب بالقوة، كما تذكر الكاتبة الايرانية اذر نفيسي، ان هذ الامر قد انطوى على رمز أخلاقي حداثي مثير للجدل، وكان يمثل إشارة صارخة تدلّ على تقليص سطوة رجال الدين في المجتمع الايراني، بعد الاطاحة بالدولة القاجارية التي كانوا يتمتعون في ظلها بنفوذ كبير، فأصبح من المهم جداً لدى الطبقة الحاكمة من رجال الدين أن يستعدوا للدفاع عن سطوتهم المستقبلية.
كذلك كان الحال بدرجة او اخرى في العراق والشام والمغرب العربي، حيث انتشرت ظاهرة التأثر بالغرب من حيث شكل الملبس الذي غطى اربعة عقود امتدت من الثلاثينيات الى السبعينيات من القرن العشرين، اذن ماذا حدث بعد ذلك؟ كيف يمكن ان نقرأ ما حدث في سبعينيات القرن الماضي، هل هو صحوة اسلامية اجتاحت مجتمعاتنا، وكان من ابرز علاماتها المجتمعية عودة الحجاب والنقاب بقوة؟ أم انها حالة نكوص، تشير إلى عدم إمكانية التعايش بين الحداثة ومظاهر التقليدية المجتمعية؟
كاتب عراقي
صادق الطائي