المنهج الاستعماري وانتهاكات الجيش البريطاني في العراق

يبدو أن البعض من ساسة المملكة المتحدة مازالت تعشش في أذهانهم خرافة الامبراطورية التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس، ومازالوا ينظرون إلينا نظرة دونية، مشترطين علينا أن نُقزّم أنفسنا كي تبقى قاماتهم هي الأعلى.
فعلى الرغم من انخراطهم في غزو العراق عن عمد وسابق إصرار، بتبعيتهم السياسية الذليلة للموتور بوش، وكأن بريطانيا إحدى الولايات الأمريكية، وارتكاب جيشهم جرائم قتل وتعذيب في سجون سرية في محافظة البصرة وغيرها، يُعلن وزير الدفاع مايكل فالون، إغلاق التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها القوات البريطانية في العراق.
ففي عام 2010 أصدرت الحكومة البريطانية قرارا بأنشاء فريق مكلف بالتحقيق في الاتهامات الموجهة ضد الجنود البريطانيين، التي أثارها مدنيون عراقيون عبر محامين مكلفين، وقد أطلقت على الفريق تسمية «فريق المزاعم التاريخية». وتقرر أن يكون هذا الفريق مستقلا في تحقيقاته، بحيث لا تتداخل إجراءاته مع الاجراءات التي كانت تقوم بها المؤسسة العسكرية في هذه القضية. وعلى الرغم من أن هذا التشكيل تصدى للكثير من القضايا التي طُرحت أمامه، من بينها اتهامات بالقتل والتعذيب وسوء المعاملة، لكن الإجراءات لم تسفر عن أي شيء، ولم يتم الاعتراف بقانونية وشرعية القضايا التي عُرضت أمامه، وبالتالي لم يتم إنصاف أي ضحية من أولئك المدنيين. الغريب أن قرار إغلاق هذا الموضوع وتصفية الفريق العامل، يأتي بعد اتهام المحامي الذي كان يتولى المرافعة في القضايا بخيانة الأمانة، والادعاء بأنه كان يُقدّم مزاعم ملفقة على ألسنة المدعين، ما أدى الى التغاضي عن بعض الملفات ورفض العديد من القضايا. وضمن السياق نفسه كان قد أثار بعض النواب ضجة باتهامهم فريق التحقيق بالفشل في التوصل إلى أي ملاحقات قضائية ناجحة، على الرغم من إنفاق مبلغ ثلاثة وأربعين مليون جنيه إسترليني.
إن المتابع لتصريحات وزير الدفاع البريطاني حول الموضوع، وكذلك بعض أعضاء البرلمان وتقرير وزارة الدفاع، يجدها كلها تشير بوضوح الى الاستهزاء بكل معاناة المدنيين العراقيين على أيدي القوات البريطانية المحتلة، مقابل الحرص التام على مشاعر عناصر الجيش، وعدم المساس بكرامتهم. فوزير الدفاع يقول إن قرار إغلاق التحقيق سيشكل مصدر ارتياح لجنودنا الذين حامت حولهم شكوك لفترة طويلة جدا. أما اللجنة البرلمانية فتتهم فريق التحقيق بأنه يعاني الصمم إزاء هواجس الجيش، على الرغم من أنه لم يقر بحقوق أي قضية من القضايا الـ 3500 التي تعامل معها. كذلك كان وصف تقرير لجنة الدفاع متسربلا بالعار والفضيحة، لأنه يتهم فريق التحقيق بأنه عمل دون أي اعتبار للتأثير على الجيش البريطاني، ما أدى إلى إلحاق الأذى بسمعته في جميع أنحاء العالم، حسب زعمهم، وأن من كانوا قيد التحقيق عانوا ضغوطا غير مقبولة، وكانت حياتهم على المحك، وتم تدمير حياتهم المهنية. فهل بعد كل هذه التصريحات والتقارير الصادرة عن جهات حكومية بريطانية، يبقى من يشك بأن الغرب ليس عنصريا في نظرته لنا؟ وأن هنالك اعتبارات إنسانية تُقيّد فعلهم، بحيث لا يذهب بعيدا في وحشيته؟ أو أن يأمل البعض في إحقاق حق لمظلوم وإنصاف أهل الضحية؟ ها هي يقولونها صريحة جدا بأن الضغوط على أدوات جرائمهم غير مقبولة، بينما يغزون بلدا بكذبة كبيرة وينتهكون القانون الدولي الذي يتبجحون به، ويسوقون الناس كالقطعان إلى المذبح، وينتهكون الأعراض ويهينون الرجال والنساء، وييتمون الأطفال، ويدمرون كل البنى التحتية التي صُنعت بعرقنا ودمائنا وأموالنا، هذه كلها مسموحة ومباحة لهم، وبعدها عليك ألا ترفع صوتك حتى بالشكوى. إنهم حريصون على سمعة جيشهم في العالم، وإذا قلت إنه انتهك أو قتل أو اغتصب في العراق وغير العراق، فأنت تدمر الحياة المهنية لعناصره، لكن جيشك الوطني يُحل ويُرمى منتسبوه الذين دافعوا عن كل الأمة على الرصيف دون رغيف خبز. هذه هي حقوق الإنسان التي يتبجحون بها، وهذه هي الديمقراطية التي يروجون لها ليل نهار. إنها تناقضات المنهج الاستعماري الذي يوظف النصوص والقوانين والأعراف لمصالحهم، ويكيل بمكيالين إن تناقضت هذه مع أهدافهم وتطلعاتهم، لذا يحاول وزير الدفاع البريطاني والبرلمان وغيرهما من المسؤولين البريطانيين، وضع الدعاوى التي تقدم بها بعض ضحايا انتهاكاتهم في العراق في خانة الدعاوى عارية الصحة، متناسين أن حكومتهم دفعت تعويضات بملايين الجنيهات في 326 قضية مرفوعة ضد جيشهم، وهو تأكيد على أنهم انتهكوا واغتصبوا وقتلوا وعذبوا، فهل كانت الحكومة غافلة حين دفعت تلك المبالغ؟ أم أنه كرم بريطاني لشعب غزوه؟ أم أنها كانت قضايا حقيقية بدلائل لا تقبل النقض والتسويف والمماطلة؟ بل ماذا يقول كل هؤلاء الذين احترقت دماؤهم على سمعة جيشهم، وقد قام الصليب الأحمر الدولي نفسه بتوثيق انتهاكات جيشهم ونشرها؟ إضافة إلى تبرع جنود من الجيش نفسه بتسجيل ما شاهدوه من انتهاكات قام بها زملاؤهم بحق المدنيين؟ وهو ما دفع جريدة «الغارديان» البريطانية في تقرير نشرته نهاية العام الماضي إلى القول، إن الانتهاكات التي قامت بها القوات البريطانية ضد المدنيين العراقيين يجب أن تظهر إلى العلن، وأن الجيوش الحديثة في العالم يجب عليها الالتزام بالقانون الإنساني والدولي.
إن دول الغزو والعدوان على العراق، ومنها بريطانيا، ما برحت تنظر إلى نفسها على أنها هي المنتصرة، وبالتالي يُمنع التطرق إلى الجرائم التي يرتكبها المنتصر في العُرف الاستعماري، وهي الغطرسة الاستعمارية الاستعلائية نفسها، التي دفعت حكومة صاحبة الجلالة إلى التنصل من الاتفاقية الاوروبية لحقوق الإنسان في فترة الحروب نهاية العام الماضي، كي يسمحوا لجنودهم بفعل ما يشاؤون دون محاسبة وملاحقة قانونية. يعزز هذا النهج وجود حكومات عميلة أو تابعة أو هي من نصبها المحتل في البلدان التي تعرضت للغزو والاحتلال، فتضيع حقوق المواطنين وتهدر كرامة الأوطان. والمثل الأبرز على ذلك حكومة الدمى في بغداد والبرلمان المزيف والقضاء المسيس، الذين باتت جرائمهم بحق الابرياء تفوق جرائم الغزاة المحتلين، فهل بعد ذلك يوجد من يتوقع منهم أن يطالبوا المجتمع الدولي بالوقوف معهم لمقاضاة الدول المعتدية، التي نهبت ودمرت وقتلت وعذبت الكثير من الأبرياء؟ كما أن المنظمات والجمعيات الحقوقية العراقية العاملة في الخارج، تعاني من العجز والشلل بعد ان تحولت إلى إقطاعيات خاصة لرؤسائها والمسؤولين عنها، الذين يتربعون على عروشها منذ عقود طويلة دون فعل يذكر، مكتفين بالبيانات الاستنكارية والطلات الاعلامية التي لا تقدم سوى الكلام المعسول.
إن التحقيق في الجرائم التي ارتكبها الغزاة، في العراق وغيره، ليس الهدف منها الحصول على التعويضات المادية الفردية، فهذا أمر ثانوي أمام الحدث الأكبر وهو اغتصاب سيادة وطن، وإهدار ثروات وإنجازات شعب وإفناء مستقبل أجيال. لهذا فإن الكثير من العراقيين الذين تعرضوا لانتهاكات إنسانية خطيرة، يأنفون من أن يقفوا كالمتسولين أمام محاكم أجنبية عارضين قضاياهم الشخصية بغية الحصول على بضع دولارات، لأن تعويض الوطن ماديا ومعنويا عن جرائم الغزو والاحتلال هو التعويض الحقيقي للافراد. وهذه قضية كبرى تتطلب وجود حكومة وطنية ليست موجودة في العراق اليوم.
باحث سياسي عراقي

المنهج الاستعماري وانتهاكات الجيش البريطاني في العراق

د. مثنى عبدالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لقد قالها الكروي داود مراراً وتكراراً بأن الحرية بالغرب هي لهم فقط وليس للشعوب الأخرى وكذلك حقوق الإنسان !
    لازالت النظرة التسلطية الإستعمارية هي هي بسبب زعمائنا الذين نصبهم الغرب علينا كأصنام تحكم حتى وهي بالقبر
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول فادي / لبنان:

    والمصيبة ان هناك من مثقفي عالمنا العربي من
    يرى في هذا السلوك الغربي انقاذ للحياة وحضارة
    نبيلة ودفاع عن امنهم القومي وتناسوا ما فعله الاستعمار
    ومخلفاته وكيف اثر ذلك على شعوب منطقتنا !

  3. يقول غادة الشاويش -المنفى:

    استاذي د مثنى ..لم اتخيل ان من كتب هو د مثنى بل وحيات الله خلته العراق نفسه العراق العظيم المسجى اليوم ذبيحا في تابوت طاءفي ومقبرة الفساد المالي العراق الذي ذبحه ابمستعمر بسكينه اللءيمة ودمه الازرق الذي لا يعرف رحمة ذهابا واكمل عليه الفاسدون والميليشياويون وابكاءفيون واذناب الاحتلال ذبحا بنفس السكين ايابا على عنقه لن يموت فينا سيقوم كمسيح نفض عن قبره غبار الصلب او قل ان شءت سيعود محملا بملاءكة السماء ليعاقب القتلة الجدد لا اشعر ان للعراق اهل لا زابت ملامحهم نقية وانفاسهم عراقية زكية الا عندما اوي الى ركنك الشديد هنا يا د مثنى ممن احبارهم تسبح بحمد القاتلين وتلقي المواعظ عن الثواب والعقاب في جيوش من الضحايا د مثنى ابق اكتب فمن عجز لكبره او اعاقته عن القاء القنابل الحاسمة على رموز الاستبداد والعنصرية العالمية وزعماء الذبح ومشعلي حراءق كونية سيقصفهم بالقلم القلم هو الالم وهو العلم القادم في ايدينا عندما تتعملق صرخة المظلومين فتشق السماوات ومن ثم تمطر السماء غضبها وتنعي طغاة عالمنا نعيا عادلا ان سقط انين الضحايا العراقيين من مسيحيي الموصل الى سنة العراق الى شيعتهم الذين يقتلون ايضا في سلسلة حروب الفعل ورد الفعل وبات الجميع يحن لمواطنته ليخف عنه لهيب التهجير والتعذيب والسيارات المفخخة والشمس االاهبة التي تحرق مدى من خيام النازحين هذه الصرخات تدوب عبر صليل الحبر وتشق السماوات وتبرق بالنصر وسيمطر القوم ولو بعد حين بحجارة مسومة عند ربك للظالمين ووالله ان موعدهم الصبح اليس الصبح بقريب
    شكرا لجلال الماوى تحت خضرة نخيل العراق قبل ان يحترق شكرا لرشفة الفرات ودجلة من يديك التي ارشفها على ظما في زمن اقلام الظلام والتسبيح بحمد اللءام
    تلميذتك الممتنة لجريدة القدس لانها وهبتنا اياك في ليلة مقمرة يا ابا الشهيد
    غادة

  4. يقول تالع:

    الإستعمار عقلية تتوارث كأي موروث آخر.

    فرنسا لا زالت ترفض مجرد إعتراف بجرائم
    أسلافها في الجزائر. أما لماذا؟ لأن إعترافها لن يكون بالضرورة تجريما للنفس فحسب بل و إلتزام ضمتي بأنها لن تلجأ لممارسة هذه الجرائم مستقبلا، و هدا لا تريده و لا تريده أي دولة إستعمارية.. و قد يعيدون الكرة تارة أخرى.
    المجرم الحقيقي وكلاءهم الأعراب حكاما و أقلاما.

  5. يقول سعد محمد-بغداد:

    مقال قوي ومؤثر والحقيقة ان النهج التسلطي والتمييز في المعاملة في هذه الدول يمتد ليشمل مواطنيها من حملة الجنسية البريطانية الورقية والذين هم من منابت واصول عربية او من المسلمين من اهل السنة. تحية لك.

إشترك في قائمتنا البريدية