لم تحظ الجماعة المارونيّة بشغف دراسيّ استشراقيّ غربيّ استثنائيّ يقارن بما حظيت به تراثات وجماعات و»أقليّات» أخرى من هذا الشرق في عهود التضعضع العثماني والتمدّد الإستعماري الأوروبيّ. لم تبدُ الجماعة المارونية «إكزوتيكيّة»، أي «غرائبيّة»، بحيث تستأهل كدّ المخيلة الأدبيّة الإستشراقيّة عليها، ولا «أركيولوجية» كفاية، بحيث يسهل الوصل بينها وبين العصر القديم، كما يمكن الوصل ـ استشراقياً، بين القبط والكلدان والأشوريين وحتى الروم، وبين أزمنة غابرة أو ذات مجد. في المقابل، ظهر معاش الجماعتين المارونية والدرزية في الجبل اللبنانيّ «بيتورسكيّاً»، أي متميزاً بما يطبعه في الذهن من صور ملوّنة وأضواء متفاوتة وانعدام اتساق محبّب، وهو ما أعطى للموارنة رصيدهم في مدوّنات الرحّالة الأجانب، فاهتم بهم الإستشراق من ناحية أدب الرحلة ويوميات المسافرين ومراسلات القناصل، أكثر مما اهتمّ بهم من ناحية الأدب الروائي، أو من ناحية التبحّر الدراسيّ الذي لم يجد في الخصوصيات اللاهوتية أو الليثورجية للموارنة ما يغري «شهوته النصّية»، ولا في التديّن الشعبيّ عندهم ما يغري شهوة «تجميع الفولكلور وضبطه».
هذا التفاوت في الإهتمام الإستشراقي الغربي بالموارنة، بين قلّة اهتمام «دراسيّ» بهم، وقلة اثارة اكزوتيكية أو أركيولوجية تجاههم، وبين استذواق «ايجابيّ» لريفيّتهم الـ»بيتورسكية»، لم يكن هو نفسه ما أنتظره إكليروس الجماعة وأعيانها، ولا ما أراده «أيديولوجيّوها» لاحقاً. فالجماعة اعتنقت الكثلكة، في تاريخ تحرص هي على إرجاعه لأطول فترة ممكنة، في وقت يصير تثبيته مبهماً قبل القرن السادس عشر الميلادي، بل من الصعب اعتباره منهجياً قبل القرن الثامن عشر.
وبالتوازي، عانت الجماعة حتى فترة قريبة من استمرار «تعييرها» كاثوليكياً بأصولها الهرطوقية، وانتهاجها مذهب «المشيئة الواحدة» المدان بابوياً، فيما أحبار الكنيسة المارونية ومؤرخيها واظبوا على انكارهم هذا، بحساسية شديدة.
و«أيديولوجيو» الموارنة مطلع القرن العشرين، مثل بولس نجيم ويوسف السودا، طوّروا سردية مشاركة الموارنة أخوانهم الفرنجة في الحملات الصليبية، قبل أن تعود نخب مارونيّة في وقت لاحق من القرن الماضي وتجد أنّ «التنصّل من الصليبيين» أكثر فائدة في زمن بدت فيه روما معتذرة عن الحروب الصليبية. لم يقتنع الموارنة بأنّهم قوم «غير اكزوتيكي كفاية» بالنسبة للإستشراق الغربي، ولم يقتنعوا خصوصاً بأنّهم «غير أركيولوجيين كفاية». اعتناقهم لفكرة توسيع حدود المتصرفية لتشكيل لبنان الكبير جعلتهم يقطعون نهائياً مع فكرة كانت بعض نخبهم هي المبادرة اليها عن «سوريا»، في حين بقيت تسميتهم الرسمية «بالكنيسة السريانية المارونية». لكن «الإستشراق الذاتي» بحثوا عنه، ليس في تطوير شخصيتهم السريانية ـ السورية، بل في أنساب خيالية، تارة إلى الفينيقيين، وطوراً إلى الأموريين والأراميين، أو إلى المرتزقة الذين كانت توكلهم بيزنطة بالكرّ والفرّ في مناطق الثغور، من المردة والجراجمة، مع أنّ هؤلاء كانوا بمعظمهم من قبائل أرمنية وكردية، أكثر من كونهم من السريان.
احتاج الموارنة لـ»الإستشراق على أنفسهم»، ولم يكونوا الجماعة الوحيدة في المستعمرات وأشباه المستعمرات التي احتاجت إلى هذا الأمر، كي تصنع الجماعة من خلاله هويتها، وأسلوب وعيها لنفسها، ولعلاقتها بالتراب الموجودة فوقه، وعلاقتها بالشتات عبر العالم الذي صارت عليه، ثم موقعها من الكيان الوطني ـ الكولونيالية التنشئة، وهو في حالة لبنان وطن اعتبره الموارنة ابتكر تحديداً كحلّ لـ«المسألة المارونية»، مسألة معاناتهم من استقلال غير منجز وهشّ ومحروم من البحر والسهل في نهايات الحقبة العثمانية.
لكن «الإستشراق على الذات» ليس باستشراق جدّي. هو بالأحرى تقلّب بين الشيء ونقيضه، فمن جهة طرفة أنّ الموارنة هم من استنهض اللغة العربية بعد أن كانت على وشك الإنقراض، ومن جهة مناكدة «القومية العربية» بالعودة إلى الفينيقيين، دون أن يكون بمستطاع دعاة الفنيقة بين الموارنة من شارل قرم حتى سعيد عقل الإسترسال في الأمر جدياً، إذا ظلّت النزعة المسيحية المحافظة تلجم هذه «الشهوة الوثنية الجديدة» لديهم. حيث لم توقفهم «العروبة»، أوقفهم «رهاب الشرك»، ورهاب الإبتعاد عن التثليث المسيحي.
الشيء الوحيد الذي نجح مارونياً في كل مغامرات «الإستشراق على الذات» غير المتمّمة هو تجذير تعريف الجماعة لنفسها من خلال عبارتين. واحدة انتزعت مما اعتبر شهادة بابوية للموارنة، بأنّ كنيستهم في الشرق هي كـ»الوردة بين الأشواك»، وثانية قول للرئيس الذي اغتيل بعد أسبوعين من انتخابه، بشير الجميل، «نحن قديسو الشرق وشياطينه».
في الجمع بين هاتين المقولين، أحرز «الإستشراق على الذات» رصيداً معاشاً في الأفئدة والصدور، في المخيال الجمعي، خصوصاً السياسي منه.
التأثير الذي تلعبه مقولتا (الوردة بين الأشواك) و(ملائكة الشرق وشياطينه) في تصوّر الموارنة عن أنفسهم، وعن علاقاتهم بالمكونات اللبنانية الأخرى، وموقعهم في الشرق، وبالتحديد السياسي أكثر، عمّا لهم وما عليهم في الإجتماع اللبناني، وفي مؤسسات الدولة وأجهزتها ووظائفها، هو تأثير نوعيّ. ورغم أنّ الموارنة قد انتقلوا من اقتضاء لبنان كـ«دولة الموارنة» في البداية، إلى «دولة للموارنة» منذ 1926، إلى دولة شراكة إسلامية مسيحية يحتفظون بها بضمانات «الجماعة المؤسسة» عام 1943، إلى ما هو أكثر تكيّفاً مع التبدّلات الديموغرافية والسياسية بعد ذلك، ورغم أنّ استعارة «لبنان بجناحيه» بدت أكثر قدرة على الإستمرار والمراوغة من المقولات السابقة عليها، فإنّ «المارو ـ مركزية» لم تساءل بشكل نقديّ كاف من داخل الجماعة، وانما فقط على هوامشها، أو من خارجها، ولطالما كان «رهاب الموارنة» أو «المارونوفوبيا» عشية الحرب الأهلية وخلالها، مدخلاً يعين «المارو ـ مركزية»، أي رؤية لبنان والعالم كله انطلاقاً من محورية الذات المارونية وخصوصيتها الشديدة، أو فرادتها، على الإستمرار من دون مساءلة جدية.
اليوم، مع توجّه النواب الممدّد لهم منذ ثلاث سنوات من دون انتخاب، إلى وضع حد لشغور رئاسي مستمر منذ عامين ونصف العام، وانتخاب العماد ميشال عون رئيساً قرن ترشيحه للمنصب الأول بـ»حقوق المسيحيين» وعودتهم إلى مركز السلطة، ثمّة شعور سحريّ بالاقتدار المارونيّ عند الجماعة، وعند عموم المسيحيين في لبنان، وتساؤل في نفس الوقت عن مغزى هذا الاقتدار المارونيّ، ورصيده في حركة الواقع، في ظلّ التغلّب الذي يمارسه «حزب الله» منذ أكثر من عشر سنوات، علماً أن مجرّد ورود هذا الشعور لدى الموارنة لا يحتسب لصالح تغلبية «حزب الله» والشيعة عموماً، بل أنّه يعاكس مقولة «الانتقال» من مارونية سياسية إلى شيعية سياسية.
هاتان المقولتان، «الوردة بين الأشواك» و»ملائكة الشرق وشياطينه» تمارسان اليوم تحديداً أثراً وجدانياً كبيراً على الجماعة أكثر من أي وقت منذ انتهاء الحرب اللبنانية. هذا حيوي، لأنّه يزوّد الجماعة ما يعينها على استجماع شرائط عصبيتها، ويعقد المسائل من ثمّ أمام تغلّبية «حزب الله»، ويفرض أعباء إضافية على حسابات الإعتدال والقصوية ضمن الطائفة السنية.
لكن، من ناحية أخرى، في الأمر ما هو غير مسند بالرصيد الكافي، ويبتعد عن احتساب الأمور بمعايير نفعية وبمصالح القوم وبما يمكنهم فعله، وبالكيفية التي تعطي المجال لاستقرار الكيان اللبناني على غير تداول الهيمنات بين طوائفه، يحتاج بالتأكيد لفك السحر عن هاتين المقولتين.
ليس بالضرورة أن يكون الموارنة «وردة بين الأشواك» أو متلازمة «ملائكة وشياطين» كي يستعيدوا دورهم في لبنان والمنطقة. انما الحاجة على المدى المتوسط هي التخفف من هذه المقولات، وبناء وعي الذات على العناصر الموضوعية لإستمرار قوة المسيحيين في لبنان (الجغرافيا السكانية التي تجعل لهم مدى متصلاً في وسط البلد، البرجوازية المسيحية، موقعهم في المؤسسة العسكرية وفي جهاز الدولة ككل، وحضور فكرة الدولة وظلالها في المناطق المسيحية أكثر منها في المناطق الإسلامية من لبنان). الموارنة ليسوا من «الجن» كي يحتسبوا ملائكة وشياطين، أو وردة بين أشواك. «أنسيتهم» هي مدخلهم لإعادة الوصل بين عناصر قوتهم الموضوعية رغم ضعفهم العددي والسياسي، ورغم غلبة «حزب الله» السلاحية.
فهل تكون النزعة «السحرية» وصلت بترئيس عون على الجمهورية لمداها، بحيث يمكن الفكاك منها، نحو «أنسنة الموارنة لأنفسهم»، بدلاً من استشراق على الذات جعلهم يغالون في «فرادة الوردة بين الأشواك»؟ لن يحدث الأمر من تلقائه. لكن تعريض هذه النزعة السحرية للإختبار العينيّ، فيه منفعة «ناسوتية» ترتجى.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة