الموسيقى والتغيير

حجم الخط
3

عندما كان أجدادنا يقولون «العلم في الصغر كالنقش في الحجر» كانوا مصيبين إلى أبعد الحدود، والعلم ليس مجرد رياضيات وأرقام وأبجدية ودروس في النحو أو سوى هذا، العلم كبير إلى أبعد مما يمكن أن يوصف، فهو مادة داخل كل شيء في الحياة، سواء كان جمادا أو متحركا.
مشكلة مدارسنا في العالم الثالث أنها أرادت عن قصد أن تبقينا في دائرة العالم الثالث، فنظمنا التعليمية تفتقر إلى كل ما من شأنه أن يبني غد سوي ينتمي إلى العالم الأول.
في مدارسنا لم يتعلم أهلنا فكرة قبول الآخر ولا الإيمان بالاختلاف ولا قبوله أيضا كأمر واقع، وإن كان هذا الاختلاف خاطئا من وجهة نظرنا.
مدارسنا لم تعلمنا كيف نثقفه ليختلف في إطار حضاري.
تربينا على مناهج غالبا تقصي الآخر وتصنفه بوصفه العدو، لا تمنحنا المناهج فرصة فهم العدو ولا إمكانية تحديد هويته، فنحن نتعلمه لأن القيادات تريدنا أن نحصر أنفسنا في عدو واحد وفكرة واحدة، كان بَعضُنَا يتخذها عن إيمان وغيره يلاحقها بلا إيمان، بل من باب الواجب، ولهذا أحيانا يتمرد عليها. لم تتح أنظمة التعليم في دول العالم الثالث فرصة أن نحدد هوية عدونا وفق أسلوب تفكيري، بل أرادت أن تلقنه لنا وفق ما تريده السياسات.
علمتنا المدارس ومناهجها واجباتنا كمواطنين صالحين، لكنها أبدا لم تدعنا ننتبه إلى حقوقنا كمواطنين، فحقوقنا خط يجب عدم الوصول إليه ومن يفكر بهذا غالبا ما يعاقبه من علمه واجبه وأهمل أن يعلمه حقه.
هذه الفكرة طغت على كل شيء في الحياة، فغالبا نجد الكثير من الأشخاص المصنفين بأنهم أهل العالم الثالث يدركون أن كانوا ذكورا حقوقهم كأزواج تماما لأنهم في موقع السلطة، ولكنهم يتغاضون مثلا عن واجباتهم وقد يحاصرونها بالغذاء والطبابة والملابس، أي بأشياء عينية ظاهرة لا تهتم بالجوهر.
هكذا أصبح مواطن العالم الثالث جنديا يؤدي الخدمة وحتى من دون انتظار مقابل أو مكافأة، فحسن السير والسلوك تحدده كمية الوفاء للمنهج لا للفكر، فلا وجود للفكر في عالم يريدنا أن نتقبل الأشياء بوصفها شيئا لا نقاش فيه ولا ردة عنه.
لم تعتن مناهجنا بمشاعرنا كمواطنين، وبدلا من أن تعلمنا الاختلاف نزعت عنا ما يوحي بالاختلاف، فحرمتنا من التعبير عن مظاهر اختلافنا تماما، بحيث صار التعبير عن هوية الاختلاف جرما يعاقب عليه القانون ويجرمه أحيانا إلى درجة إقامة الحد.
في العراق على سبيل المثال لا الحصر، كنّا نتعلم الموسيقى في المدارس، ولكن لم يهتم أحد أبدا بتعليمنا كيف نستمع إلى الموسيقى ونسمو بها، ففي العالم الثالث قلما يعتني منهج بأن يدعو الطلاب إلى حضور حفلات موسيقية تعلمهم كيفية الإصغاء للموسيقى، هكذا نجد أننا بحاجة إلى تثقيف ذاتي لنحترم فكرة الاستماع لا فقط فكرة تعلم العزف أو تعلم الدروس في تاريخ الموسيقى، وهذا يسري على كل شيء غالبا.
مشكلة فردنا في العالم الثالث، وبالتالي مجتمعاتنا هي المناهج التعليمية التي وضعت كل شيء يخدم مصلحة القيادات العليا، وأغفلت كل شيء يخدم قيمة الفرد في المجتمع، فالفرد تبعا لما تعلم يعمل كي يخدم لقمة عيشه، وفي أرقى الأحوال كي يخدم مجتمعه وفق تصورات معينة، لكنها، أقصد المناهج، لم تعلم هذا الفرد أن لقمة عيشه هي وسيلة من وسائل حضارة مجتمعه، وإنه بينما يؤمن ما يعيش به يمنح مجتمعه التطور، فالتطور، كما أرادته المجتمعات، فكر له علاقة بالتاريخ والأجداد ولا يحق للفرد أن يكمل الدرب إلا إذا كان قائدا.
لم تعلمنا مناهجنا القيادة، ولم تحيي فينا روح المسؤولية، وروح المسؤولية تنافي فكرة الواجب، فالإحساس بالمسؤولية يجعلنا نحترم واجباتنا، بينما لا نستطيع أن نفعل هذا عندما يكون واجبنا أن نقدم واجباتنا على أكمل وجه لأن تقاعسنا قد يعرضنا للعقاب.
في الدول المتقدمة يذهب العامل إلى وظيفته وهو متهيء بشكل كلي لفكرة الإنتاج، أما في عالمنا فغالبا ما يذهب إلى عمله ليؤدي واجبه وليقبض أتعابه بغض النظر عن كيف قام بعمله.
أؤمن دائما بأننا مهما طورنا في حياتنا حضاريا لن نستطيع إلا أن نبقى في دائرة العالم الثالث طالما أن مناهجنا التي تربينا منذ الصغر لا تتغير. علينا جميعا أن ننظر مليا إلى وزارات التربية والتعليم فهي الجهة المناط بها المستقبل، أما الماضي فهو مفيد في تعلم العبر والدروس. علينا أن نفكر أن الطالب عندما يغادر صفوف الابتدائية يكون على معرفة تامة بحقوقه كفرد وأن يتمتع بأداء واجباته أيضا في مجتمعه، وأن يكون قادرًا على احترام الاختلاف، وعندما نصر على كل هذا سنكسب طلبة يرفعون بدُولنا من خانة الثالث إلى خانة الأول حتى عندما لا يريد العالم الأول انضمامنا إليه. المناهج التعليمية أساس التغيير في كل شيء.

موسيقي عراقي

نصير شمه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نهى عبد الكريم:

    تشخيص في غاية الدقة والاهمية اتمنى أن يتم تبنى تلك الطروحات القيمة طريقها لمراكوز الابحاث التي تعنى بصياغة المناهج التعليمية ، فمعظم مشكلات الفرد العربي ناجمة عن الثقافة السلبية التي تلقاها في المراحل الاولى لتعليمه وبما أن العالم العربي من المحيط الى الخليج تتشابه نظم حكمه الشمولية الدكتاتورية لذا فنشاهد مخرجات تلك الانظمة من خلال الاجيال التي تخرج وهي متبنية لمسلمات ثابتة فيما يتعلق فمسألة الاختلاف وقيمه الثقافية في إغناء المجتمع وفيما يتعلق بالرأي والرأي الآخر وفضاءات التعبير وهكذا ، مازال حتى الآن موضوع الاختلاف في معظم الدول العربية يشكل مشكلة كبيرة مؤخرا زرت بلدا عربيا وهو مصر وفجأة استمعت لمعاناة ثلاثة أطفال عراقيين يقيمون في مصر لمجرد إكشتاف ادارة المدرس أنه هؤلاء يختلفون مذهبيا ً مع طلبة في صفوفهم على الفور قامت مدرسة التربية الاسلامية بتوجيه شتى النعوت السلبية لهم وقامت بطرهم من الصف وهذا الموقف بحد ذاته إحدى تجليات المشكلة التي تعود أسبابها للطريقة السلبية التي تفرضها الانظمة في تنشئة الاجيال

  2. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    مقال مختلف بموضوعه مما إعتدنا عليه من الكاتب الفاضل

  3. يقول أفانين كبة . مونتريال ، كندا:

    بالفعل ليس هنالك تقبل الأختلاف في القابليات الذهنية بين التلاميذ في مدارس الدول العربية والتي هي ضرورية لبناء اي مجتمع حضاري يحتاج كل الاختصاصات سواء ان كان في مجال العلم والأدب والاجتماع او في مجال الفنون بأشكالها . ومن المؤلم أن اسلوب الضرب لايزال يستعمل في الكثير من المدارس العربية لجهل المعلمين بالفوارق الذهنية بين التلاميذ .
    في الدول الغربية يُحترم الانسان الذي يعمل وينتج ويقدم خدماته للمجتمع مهما كان نوعية عمله ، والأهم أن يكون يحب عمله .

إشترك في قائمتنا البريدية