كان تشكيل تحالف عابر للهويات الفرعية القومية والمذهبية ضم القائمة العراقية والحزب الديمقراطي الكردستاني والتيار الصدري في مايو/ ايار2012، حول مشروع سحب الثقة عن رئيس مجلس الوزراء العراقي نوري المالكي، لحظة استثنائية في مسار ما أطلق عليه «العملية السياسية» في العراق التي انتجت عام 2003. ليس لأنها استطاعت أن تجمع فرقاء سياسيين لأول مرة في إطار مطلب سياسي بحت بعيدا عن إشكالية الهوية، بل لأنها عبرت عن وعي الجميع بأن استمرار إدارة المالكي للحكم يمكن لها أن تؤدي إلى كارثة حقيقية.
ولكن هذه اللحظة الاستثنائية فشلت في تحقيق هدفها، بسبب من تراجع رئيس الجمهورية جلال الطالباني، وبضغط إيراني صريح، عن إنفاذ وعده بتقديم طلب سحب الثقة إلى مجلس النواب، كما يشترط ذلك الدستور العراقي.
وبسبب فشل القائمة العراقية في جمع الأصوات المطلوبة منها لتحقيق هذا الهدف، بعد امتناع العديد من النواب السنة من التوقيع على طلب سحب الثقة! وهو الأمر الذي أدى بالمالكي إلى الإصرار على سياساته المختلف عليها، فضلا عن زيادة تغول سلطته التنفيذية عبر احتكار كامل للسلطة، تحديدا احتكار القرار العسكري والأمني، بعد استخدامه المنهجي للمحكمة الاتحادية لتكريس هذه السلطة في مقابل تحييد مجلس النواب، بل وصل الأمر إلى سحب سلطة التشريع من مجلس النواب نفسه!
على أن النتيجة الأهم لفشل مشروع سحب الثقة، كانت إعادة إنتاج الميليشيات العقائدية الشيعية! في محاولة من المالكي لاستخدامها في إطار صراعه معه التيار الصدري بشكل أساس. ولكن تطورات الثورة في سوريا، دفعت المالكي في مرحلة لاحقة إلى استخدام هذه الميليشيات لدعم نظام الأسد، كما أن تطورات الوضع في العراق بعد حركة الاعتصامات في الجغرافيا السنية دفعته لاستخدام هذه الميليشيات لفرض أمر واقع ذي طبيعة طائفية على مناطق حزام بغداد! قبل أن يتم استخدامها بشكل واسع بعد سيطرة «تنظيم الدولة» (داعش) على الموصل في 9 حزيران/يونيو 2014 في استغلال صريح لفتوى «الجهاد الكفائي» التي أصدرها المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني (تحدثت الفتوى عن متطوعين أفراد في القوات الأمنية ولكن المالكي استغلها لشرعنة الميليشيات التي أنتجها).
بموازاة هذه الإجراءات الاحتكارية للسلطة، وفرض سياسيات تمييزية على نطاق واسع، بعيدا عن أي أطر دستورية أو قانونية، كانت الوقائع على الأرض تفرض شروطها أيضا! فكرديا كان ثمة قطيعة شبه كاملة بين السلطة المركزية وسلطة الإقليم، وصلت في بعض الأحيان إلى حدود المواجهة العسكرية. وسنيا كانت القطيعة بين الجمهور السني والدولة وصلت إلى حد القطيعة أيضا، خاصة بعد التدجين لكامل للممثلين السنة في مجلس الوزراء وتحولهم إلى أدوات طيعة للمالكي (أصدر مجلس الوزراء يوم 10 يونيو/ حزيران 2014 قرارا بشرعنة الميليشيات من دون أي اعتراض من الوزراء السنة)، فضلا عن حالة الانقسام الصارخة في وسط النواب السنة بين تابعين للمالكي ومعارضين له!
ولم تكن حركة الاحتجاج التي اجتاحت الجغرافيا السنية نهاية كانون الاول/ ديسمبر 2012 سوى تعبير عن هذه القطيعة، وهذا الفشل في التمثيل! ولكن هذه الحركة التي نجحت نجاحا غير مسبوق على مستوى التحشيد الجماهيري فشلت فشلا ذريعا في ترجمة ذلك سياسيا! فقد افضت انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في نيسان/ أبريل وتموز/ يوليو 2013 إلى فوز نسبة كبيرة من حلفاء المالكي في هذه الانتخابات، تحديدا في محافظة الانبار التي كانت تشهد حركة الاحتجاج الأوسع! فقد نجح المالكي في إعادة إنتاج، فضلا عن تصنيع، نخبة سنية أطلقنا عليها حينها «سنة المالكي» عبر دعمها بالمال السياسي وتمكينها من تقديم خدمات مرتبطة بالدولة (توظيف، إطلاق سراح معتقلين، مقاولات الخ) من أجل ضمان فوزهم بالانتخابات. وعلى الرغم من أن حركة الاحتجاج تحولت إلى مواجهة مسلحة محدودة بعد مجزرة الحويجة في نيسان/ابريل 2013، عندما اقتحمت القوات الأمنية ساحة اعتصام الحويجة وقتلت من فيها ومثلت بجثثهم! ثم تحولها إلى مواجهة مسلحة أوسع في بداية كانون الثاني/ يناير 2014 بعد قرار المالكي اعتقال النائب أحمد العلواني القيادي الأبرز لساحة اعتصام الرمادي، ثم قرار مهاجمة ساحة الاعتصام لاحقا، ومن ثم سقوط مدينتي الرمادي والفلوجة. إلا أن انتخابات مجلس النواب لعام 2014 أنتجت، وبوسائل متعددة من بينها التزوير، ممثلين سنة غالبيتهم العظمى من حلفاء/ سنة المالكي! وكان هؤلاء جميعا قد اتفقوا مع المالكي قبل الانتخابات على دعمه في مشروع الولاية الثالثة التي كان يسعى إليها! وقد تأسس اتحاد القوى العراقية في نموذجه الأول من هؤلاء النواب، بل أن وصول الدكتور سليم الجبوري إلى رئاسة مجلس النواب كان نتيجة مباشرة لهذا الاتفاق قبل أن يقلب المرجع الشيعي السيد علي السيستاني الطاولة على المالكي ومريديه من النواب السنة!
هذه المقدمات جميعها، ومن دون الدخول في التفاصيل التي نتجت عنها، كانت العامل الرئيس في إعادة إنتاج تنظيم «الدولة» من جهة، وعاملا حاسما في تحوله إلى ظاهرة اجتماعية وسياسية تتجاوز التنظيم العقائدي، وصولا إلى سيطرته على الرمادي والفلوجة في كانون الثاني/ يناير 2014 ثم سيطرته على الموصل في حزيران/يونيو من العام نفسه!
في الذكرة الثالثة للسيطرة على الموصل، وعلى أعتاب استعادة المدينة بالكامل من هذه السيطرة، لا يبدو أن أحدا قد تعلم شيئا من هذا الدرس! فالمجتمع الدولي، وتحديدا الولايات المتحدة، ما زالت تركز على المقاربة العسكرية أكثر من حرصها على معالجة المقدمات التي أنتجت ظاهرة تنظيم «الدولة» (داعش). والدبلوماسية المتعددة المسارات والفاعلين التي يعتمدها المجتمع الدولي ليست أكثر من دبلوماسية علاقات عامة تهدف إلى الإبقاء على هدوء هش مؤقت من دون أية إرادة حقيقية لتصحيح الاختلال الشديد في علاقات القوى الذي أنتجه هذا المجتمع الدولي بنفسه منذ البداية! والدول الإقليمية ما زالت حريصة على إدامة سياساتها القديمة نفسها من دون أية مراجعة كأن شيئا لم يكن، بل أن إيران عمدت إلى استغلال لحظة تنظيم «الدولة» لتحقيق ما كانت عاجزة عن تحقيقه سابقا!
أما محليا فالمؤشرات جميعها تكشف عن أن الفرقاء جميعا لم يتعلموا شيئا من درس الموصل! فما زالت المعادلة القديمة على حالها، فمع الاعتراف الجماعي المتأخر بالأزمة في العراق، إلا أنه ليس ثمة اختلافات جوهرية حول أسباب هذه الأزمة، وليس هناك إرادة للاتفاق على آليات محددة للخروج منها. بل ثمة محاولات منهجية من بعض الفرقاء لإعادة «ترتيب» المعادلة المختلة القديمة نفسها نحو مزيد من الاختلال! فالوقائع على الأرض تكشف عن أن الأوضاع على الأرض في جميع المناطق التي تمت استعادتها أكثر سوءا مما كانت قبل السقوط. فثمة أمر واقع تفرضه علاقات القوة الجديدة، وثمة تغيير ديمغرافي مغطى سياسيا ومسكوت عنه دوليا، وثمة خرائط جديدة ترسم على الأرض، وثمة «تصنيع» لنخب سنية مدجنة حسب الطلب! وواضح أن وهم القوة الذي يعيشه البعض يمنعه من تعلم الدرس الحقيقي لما حدث، الأمر الذي قد يعيد إنتاجه بشكل أو بآخر.
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي
خلاصة المقال ــ أن مشروع الدولة الاسلامية ربما يتم هزيمته عسكريا فى المرحلة الحالبة بفعل الاحراق والتدمير الشامل الذى تمارسه قوات التحالف الصليبي الدولى . ولكن الاوضاع السياسية والاجتماعية والعقائدية ستعيد انتاج الدولة الاسلامية مرة أخرى وإن كان بأشكال مختلفة