لم يزدهر فن الرسم في الحضارة العربية الإسلامية لأسباب كثيرة؛ وساد اعتقاد بأن ذلك كان بمفعول كراهته دينيا، كراهة أصبحت تحريما لأن هناك خوفا من أن ينكص الناس على أعقابهم إلى عبادة الأوثان.
غير أن هذا السبب لا يصمد أمام ما نعرفه من تراجع عن منع فن آخر، ورد في القرآن نص صريح في الإزدراء به وبأهله الذين قيل إنهم «فِي كُل وادٍ يَهِيمُونَ وأنهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ» (الشعراء 225 ـ 226). لكن الرسول (ص) نفسه اصطنع له أكثر من شاعر كحسان بن ثابت وكعب بن مالك سخروا نصيبا من شعرهم لخدمة الدعوة ورسولها.
ربما يكون الإشكال الديني في كراهة فن الرسم أنه اقترن بفن مكروه صار رمزا للشرك وهو النحت، الذي تنسب إليه صناعة الأصنام. الخوف على المسلمين الموحدين من الرجوع إلى عبادة الأصنام كانت علة العلل؛ غير أنها علة هشة الأسس لسببين اثنين على الأقل: أولهما أن الجاهليين كانوا يؤمنون بإله واحد مع آلهتهم المختلفة والتوحيد هو استغناء عن آلهة ثانوية كانت شكلا من أشكال العبادة المحلية، أو الخاصة بجماعة ثيولوجية وليس كما يفهم نقلا من عبادة الأصنام إلى عبادة الله الأوحد؛ والسبب الثاني أن الأصنام هي تمثيل لرمز، ومن المستحيل أن ينقلب الرمز إلى ما يمثله حتى إذا كان الرمز تشخيصا لآلهة لا وجود لها مرجعيا، لأن قداسة تلكم الرموز الإيقونية تُستمد مما تمثله لا من ذاتها. حين أقبّل صورة عزيز عليّ أو أقربها إلى صدري، فإني أكون في وعي تام بأني أقبّل عزيزي الذي في خيالي والممثل في الصورة ولا أقبّل الورق حتى وإنْ قبلت الصورة. وهذا تماما ما كان يحدث في المنحوتات التي تسمى أصناما والتي تنتمي إلى حقبة تدين عرفها العالم هي الحقبة الوثنية. العبادة بشكلها غير الوثني هي عبادة مطلق يتنزه عن أن يوضع في تمثال، وعدم تمثيل المقدس سرى حتى إلى الأنبياء والتابعين. لكن الوثنية وظفت فن النحت في تمثيل المعبود.
وبالتوازي مع توظيف المنحوتات في العبادة ظل النحت في أصقاع كثيرة من العالم يؤدي وظيفته الجمالية، كأن يُنحت تمثالٌ يَعرض جمالا عاريا لامرأة أو رجل. ينبغي أن نفترض أن هؤلاء النحاتين كانوا يبرون الحجارة لكي يخلقوا صورا لجمال طرازي تتشوق العيون لمرآه. لقد كانت الفنون أهم المساهمين في تثبيت صورة طرازية للجمال بما في ذلك الرسم.
عاش مع النحت الرسمُ، غير أنه لم يكن ينافسه فالرسم فن في المتناول، إذ يمكن أن يُمارَس بوسائل بسيطة على فضاء ثنائي الأبعاد لا ثلاثيه كما في النحت. كان الرسم أقدم الأشكال التي عبر بها الإنسان البدائي قبل اكتشاف الكتابة، بل إن أولى مراحل الكتابة كانت تصويرية، ثم صارت بعد ذلك رمزية حين ابتُكرت الكتابة الألفبائية.
غياب الرسم في حيز زماني كبير ومكاني واسع في الأرض العربية الإسلامية كانت وراءه أسباب أخرى أعمق من الموانع الدينية، ما يعنينا منها هو الإدراكي. يتطلب الرسم قدرة فائقة على تمثل المرسوم جيدا وحفظه وتخزينه، وإعادة تمثيله بشكل تتفاوت درجة مطابقته للممثل عليه المرجعي، وهذا يتطلب عينا محيطة ونافذة إلى المدرك وذاكرة منظمة وقدرة على إعادة تمثيل المخزن ذهنا بالريشة.
الفقر الفني شأنه شأن الفقر المادي يصيب الشعوب ويصيب الطبقات لعوز في توفير وسائله. الرسم والنحت بمعنييهما الفني هما فنان يرتبطان تاريخيا بثقافة المدينة ولا علاقة لهما بثقافة البادية التي تنخرط في استخدام طقوسي للفن، عادة ما يرتبط بصراعها المركزي مع الطبيعة. ومثلما لا يمكن أن يوجد فن مجرد وعميق كالفلسفة بين الشعوب التي تفتقر في بداياتها إلى وسائل ثقافية متطورة، لا يوجد فن مركب ودقيق في تلك الثقافة. لكن أن تكتشف تلك الشعوب ذلك الفن عند أمم أخرى يمكن أن يكون موضوع ترحيب أو نفور. لم ينجح مثقفو العرب في العصور القديمة ممن ينتجون الثقافة بالعلامة اللغوية في أن يسوقوا لجمال الفنون الأخرى المنتجة بالعلامات البصرية كالنحت والرسم. كان الشعر هو السيد إذ كان ينتج القول، ويرسم الصور، لكنه لم ينجح في رسم ما كان لا بد أن يُرسم بالريشة: وجه الموناليزا العربية.
لوحة الموناليزا من اللوحات ذات القيمة المرجعية في العالم، هذه اللوحة يقصدها يوميا خمسة عشر ألف زائر، وهي موضوع تحليل فني وجمالياتي لا ينتهي؛ ما يعنينا منه أنها كرست عبر العصور صورة طرازية للجمال الأنثوي، الذي تتنازعه الأبعاد: فهو جمال شاب وناضج في آن؛ وجمال بدوي ومدني في آن وجمال حزين وسعيد معا، وجمال تلتقي فيه الأنوثة بنسمات من الذكورة، المهم أنه جمال تجتمع فيه العناصر المتناقضة في انسجام.
الشعر العربي كان أقدم الوثائق التي يمكن أن تبحث فيها عن رسم طرازي لامرأة جميلة، أي عن طراز للجمال في تلكم العصور؛ كان التشبيه والاستعارة اللون المائي الأهم الذي به رسمت تلك الصورة؛ كان في لون وجهها بريق البدر، وفي لون شعرها سواد الليل وفي شكلها المقدود غصن بان، وفي حركتها الرشيقة صورة غزال، وفي ريقها العذب أرقى الخمور وبين طيات ثيابها وجسدها الذي يحن للضوء عبق بخور يمني معتق أو فارسي مركب. هذه أوصاف لكنها لا تتجسد بالريشة إلا في شكل رسم تخطيطي؛ لأن في ذهن الشاعر خطاطة لا مثالا. وحتى إن أجهدنا أنفسنا فسيقودنا الرسم إلى ملامح امرأة غير عربية واقعيا، لا لأن الفن لا يحاكي الواقع، بل لأن الذهن يعشق جمالا غير ذاك الذي يعرفه. وعلى الرغم من أن المرجع الطبيعي المعتمد في الرسم صحراوي، فإنك إنْ لملمته لن تحصل على صورة امرأة عربية صحراوية وهذه مفارقات الطبيعة قبل أن تكون مفارقات الفن والواقع.
في العصر الحديث صنعت السينما المصرية في الخمسينيات والستينيات صورة للمرأة الراقية؛ صورة امرأة متحررة تلبس القصير والمكشوف وتحلق شعرها على الطريقة الأوروبية وتدخن السيجارة وتواعد حبيبها وتغازله في الهاتف وتركب معه السيارة المكشوفة.. هذه الصورة المرجعية الفنية كانت في الحقيقة تقليدا لصورة مرجعية فنية من السينما الأوروبية والأمريكية، التي تحاكي مرجعا فعليا، ولكن السينما العربية كانت تدفع إلى خلق صورة مرجعية افتراضية للمرأة وساعدت على ترويجها وتعزيزها أشياء كثيرة أهمها، دعوات التحرر في تونس ولبنان ومصر. كانت قاعات السينما في البلاد العربية أكبر مسوق لصورة المرأة العربية المعاصرة لغربها، واستطاعت السينما أن تجعلها صورة معشوقة غزت خيال الرجل، ثم صارت صورة حية تسعى . ومثلما يقول بلزاك، فإن «المرأة التي تكون في دائرة بصرنا هي المرأة التي نرغب فيها» ويضيف «من هنا جاءت القوة الرهيبة للممثلات».
ليس عيبا أن يكون الرجال في الغالب أهم من يرسم وجوه النساء؛ الرجل إن رسم المـــرأة رسمها بتطلع وترك فيها شيئا منه، بل يدعي الممثل الفرنسي ساشا غيتري أن المرأة الحقيقية «هي قبل كل شيء امرأة ليس فيها منزع نسوي».
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
توفيق قريرة
دام ابداعك
مقال مثيرللمخيال لكن عليه ملاحظات ( فنية ) ربما سيتسع لها المجال لاحقًا.المهم عبارتك : { الرسم والنحت بمعنييهما الفني هما فنان يرتبطان تاريخيا بثقافة المدينة ولا علاقة لهما بثقافة البادية التي تنخرط في استخدام طقوسي للفن، عادة ما يرتبط بصراعها المركزي مع الطبيعة }.ياسيدي الدكتورالمحترم : فلماذا نجد الرسم والنحت على جدران الكهوف القديمة ( العصرالحجريّ الحديث / الألف العاشرقبل الميلاد ؟ ). الأمرليس له علاقة بالبادية والحاضرة أنما تجسيد الرسم والنحت له علاقة بالاستقرار.العربيّ عمومًا في البادية والمدن لا يعرف الاستقرار…فطبيعته التنقل.وإلا أين الرسم والنحت العربيّ في حضارة الأندلس ؟ لا تزيد رسوم العرب في الأندلس عى الزخرفة للنباتات غالبًا…لديّ بعض كتب التراث الأندلسيّ في الطبّ والصيدلة يرافقها رسوم تخطيطية للنبات لصناعة الأدوية ؛ حصلت عليها من مؤسسة إسبانية مباشرة.وحينما زرت تلك البلاد وتنقلت بين قصورالأندلس جميع الزخارف نباتية وخطية ؛ إلا بعض النافورات الحجرية.وأرى أنّ مفهوم الآخرة قلل من ميل العربيّ المسلم للرسم والنحت.فالآخرة في مضمونها رحيل ورحلة إلى عالم آخر…وتلتقي مع فطرة العربيّ بالترحال الدنيويّ.والراحل لا يسعى ( لاشغال وقته ) في الرسم والنحت.على عكس الحضارة المصرية القديمة ( آمنت بالعالم الآخر) لكن البناة تركوا لنا المعالم الفنية الرائعة في الرسم على جدران المعابد والقبوروالنحت في معالم القصوروالصخور.من جهة أخرى فإنّ طبيعة الخط العربيّ الفنية بأنواعه الأساسية الثمانية ( نسخ / رقعة / ثلث / كوفي…) هوشكل من أشكال الرسم ؛ فلربما أسهم في الميل نحوالإبداع الخطيّ الجميل على حساب الرسم ذي الجناحين في المخيال ؟ أما لوحة الموناليزا ؛ عى الرغم من تعدد نظريات التفسيربشأنها ؛ فإنما هي
رسم للسيدة مريم بنت عمران أم السّيد المسيح عليهما السّلام ؛ وليست هي لزوجة تاجرمعاصرللفنان دافنشي كما قالوا.ولوحة الموناليزا لدافنشي هي المعادل لنحته للشاخص المعروف للنبيّ الكريم موسى ابن عمران عليه السّلام.مع التقدير.
مقالكَ رائع فالمعروف تاريخيا إزدهار بعض مدارس الرسم والنحت وفنون أخرى في فترات إزدهار الحضارة الاسلامية في عدة مناطق ؛ ولكنها لم تزدهر كما تفضلتَ كما هو الحال في أوربا ؛ وسبق ان إزدهرت في عدة مناطق عربية واسلامية قبل الاسلام ثم انتقلت الى اوروبا لتكون فيما بعد نهضة فنية ضد الكنيسة بعد عصر النهضة فالموناليزا الايطالية ثورة فنيَّة ضد او البديل العلماني لتقديس صور المسيح والقسسة. ولعلك تقصد القيام بذلك في عالمنا العربي والاسلامي. ولكنه متواجد قبل مئات السنين في الشعر العربي وان العرب والمسلمين اخذوا يقدسوا موتاهم من الاولياء ولهم صور مقدسة ولهم زيارات وهي تجارة رابحة وهذه كلها تجارة للعوام عند كل الشعوب والازمان من العصور البدائية ليومنا هذا. لقد حرَّم الاسلام ذلك لتوعية نوعية العقل البشري للارتقاء به الى المجردات بأبعادها في الانسان وما حوله لآكتشافها ليس لأجل العباده بل للاستخدام العملي لخدمة الانسان. فانقلب ذلك من الانسان لآستعباد الانسان للانسان في كل مجال وهذه تجارة رابحة للأغبياء ؛ الذين لم يصلوا لمستوى تجريد العلاقة بينه وبين الله (وخُلِقَ الانسانُ جهولا) التجريد في العبادة بتذوق نفسي وعقلي وجمالي وواقعي حسيَّاً بإكتشافه جمالياته فيه وما حوله. ليست للعباده أو التجارة المادية بتقديس المتصورات المخلوقه من خالقها وخالقه (إنَّ الله شديدُ المُحال) فالتقديس للعامة والتجريد للخاصة بل للاخص بسموه عن كُلٍّ. واقعيا الانسان حُرٌّ في التعبير بكل أنواعه وهذا إبداع رائع من البشر للبشر له معانٍ بعيده التذوق.
ياستاذ هذا الشق الاول من تعليقي وسياتيه الجزء الثاني الرجاء نشره مشكورا أمس ضاع عني التعليق لخطا فني صغير وااسفاه
انا متقاعد وأقرأ وازرع في الارض لعل زرعي هذه التعيقات فيه خير ولعلها لا تعجبك فالناس أحرار الا في هذه الاعمال المسؤولة الله يساعدك تحياتي
الاخ الدكتور جمال البدري
حقيقة دائما تكون تعليقاتك مغايرة لما هو معروف ومتداول وهي حالة ممكن ان تكون ايجابية وكذلك سلبية فالموناليزا لم يقل احد سابقا حسب علمي انها للسيدة العذراء مريم والامر الاخر يمكن قد تكون تسرعت فيه هو ان تمثال النبي موسى تم نحته من قبل مايكل انجلو,مع التقدير
المسالة المهمة ان تحريم الرسم مبني على حديث او حديثين وليس مبني على اي اية قرانية فلذلك نرى عند الشيعة الامر ليس محرما كما عند اهل السنة, اما ان يكون لنا موناليزا عربية فهو امر ليس بقدر الاهمية ولكن في المقابل لدينا الان اسماء من الرسامين او النحاتين وخاصة العراقيين ولهم اعمال فنية مهمة جدا كنصب التحرير لجواد سليم ورسومات فايق حسن ولا يزال الباقين يبدعون ومنهم علاء بشير
موضوع شَيّق عن الفن والجمال والشعر فيه تحليل و تفكير .لكن الاستاذ توفيق لم يذكر بأن العرب والمسلمين بدل عن الرسم والنحت اتجهو واعطوا اهتمامهم لفن الخط و ابدعوا في هذا المجال ونشأ عن فن الخط مدارس مختلفة .ويا ليت الاستاذ توفيق يكتب لنا في الايام القادمة موضوع عن الخط العربي .ومع جزيل الشكر.
إنَّ تعبيرك (لوحة الموناليزا من اللوحات ذات القيمة المرجعية في العالم، هذه اللوحة يقصدها يوميا خمسة عشر ألف زائر، وهي موضوع تحليل فني وجمالياتي لا ينتهي…) هذا إعجاب تصوري أكتسبته من الدعاية الغربية لها ؛ ثق يوجد جمال عربي وغير عربي تجده أمامك كل يوم أجمل مما ذهبتَ اليه.فهذا خلق الله والاخر هو تصوير لحظوي لأمرأة الرمز ضد التصور المسيحي المُقدَّس. أي بتعبير(المرأة رمز الجمال والجنس يقابله تقديس الرجل المؤله مسيحيا ودينيا في العالم العربي والاسلامي وغيره) الموناليزا رمز لصراع فني علماني يقابله التقديس الديني والاثنين سياسة في الفن والاعتقاد في اوروبا والعالم الغربي وتريده الانتقال إلينا؟! ولكن ياستاذ فهو موجود عندنا؛ فعليك البحث عنه حواليك. وقد ضربت الامثلة عليها فيما بعد. فالموناليزا العربية لم تكتشفها فيما حواليك في حضارتك فأبحرت الى ايطاليا وبينكما البحر لتتبحر فيها (ك آية جمالية لا تنتهي !؟). لقد رأيتها أنا في متاحف العالم فتعجبتُ مِن سذاجتنا في التصورات المُعَلَّبة الينا عبر كل المؤثرات الاعلامية. فناديتُ عقلي بأنَّ جماليات المخلوقات لا تنتهي باكتشافها في كل مجال عملي وجمالي وتجاري وإعتقادي. فالتصورات كالتفكرات والاعتقادات ( كُلٌّ في فَلَكٍ يسبحون) فأنا لستُ في فلك الاعجاب بالموناليزا العربية والغربية بل بالإبداع الالهي في كل خلقه ومخلوقاته فهي لا تنتهِ أبداً. وتقبل تحياتي
الأخ المحترم سلام عادل : أشكرك فعلاً لقد أخطأت بمعلومتي السابقة ؛ فتمثال النبيّ موسى عليه السّلام للفنان العظيم مايكل أنجلو.أكررشكري لتصويبك.فقد أضفت لي ياأستاذي.مع فائق التقدير.
مزيدا من مقالاتك ينهض بذائقتنا ويفتح لنا جميعا آفاقا أرحب.