انتبه العرب القدامى إلى أن الشاعر الحقيقي هو الذي يولد المعاني توليده للألفاظ. فيحوز قصب السبق على غيره من الشعراء الذين يأخذون منه، أو يقتبسون عنه، ولكنهم كانوا يعتبرون «وقوع الحافر على الحافر» ممكنا وواردا جدا للتوارد الذي يمكن أن يحصل بين الشعراء. وفي الوقت نفسه عملوا على ضبط مختلف أوجه التفاعل التي يمكن أن تحصل في شتى ضروب القول، وجمعوها في باب السرقات، التي عدوا بعضها ممدوحا، وآخر مذموما. وفي العصر الحديث عندما ظهر مفهوم التناص اعتبر بديلا للسرقات، فبدأ تسويغ كل «تفاعل» على أنه تناص. ومع ذلك فإن باب السرقات يبقى مفتوحا لأن السراق طبقات وأنواع.
مما يروى في المصادر العربية، أن أحدهم كان ينشد شعرا في مجلس، فانتبه العارفون بالشعر إلى سرقاته، فقالوا له في ذلك، فلم يكن جوابه، غير أن الحافر يقع على الحافر، فقيل له هذا صحيح، ولكن أن يقع الحافر على الحافر في الميدان كله فهذا مستحيل، فلقب بـ» الميداني».
الميدانيون موجودون أبدا. لقد كانت الحافظة تتيح لبعضهم أن يتصرف فيما يحفظ، فيعيده على أنه له، بذكاء خاص، يسمح له بإخفاء ما ليس له. قد يفلح في إخفاء سرقاته أحيانا. لكن العارفين والمتتبعين بصورة جيدة، وهم بكل تأكيد موجودون أبدا أيضا، يضبطون ذلك طال الزمن أو قصر. وشيوع «الميدانية» دليل على قلة الموهبة والأخلاق. ولا يمكنها أن تسود إلا في فترات التدهور والتراجع.
يمكن اعتبار المرحلة الحالية التي نعيشها مرحلة تراجع وتدهور بامتياز. وخير دليل على ذلك بروز ما يمكن أن نسميه ظاهرة «الميدانيين الجدد». ساهم في تفشي هذا الظاهرة ثلاثة عوامل: الفضاء الشبكي الذي صار يتيح لأي كان أن يحصل على المعلومة أيا كان نوعها ومصدرها بدون بذل أي جهد، أو تحمل مشاق السفر إلى المكتبات، قاضيا الساعات الطوال، أما العامل الثاني فيكمن في تراجع الصرامة العلمية وبلوغها أقصى درجات الانحطاط. ففي غياب المراقبة والحرص على الجودة، صار يتساوى الجميع في الأعمال التي يقومون بها بلا تميز أو خصوصية. ونجد العامل الثالث في المدة الزمنية التي صارت تنجز فيها الرسائل والأطاريح الجامعية. إن السرعة السريعة جدا التي ينتقل فيها الطالب من الإجازة إلى دكتور، لا تجعله يفكر في البحث العلمي، ولكن في الميدان الذي عليه أن يجري فيه، مسابقا الزمن.
شجعت هذه العوامل الثلاثة على سيادة الميدانية الجديدة، ولاسيما عندما يرى الميداني الجديد نفسه، وقد انتصر في الميدان، يكافأ بشهادة عليا (الدكتوراه)، أو جائزة قيمة، فيصير بذلك نموذجا يحتذى.
تبرز هذه الميدانية الجديدة على مستويات عدة. أولا على مستوى الموضوعات: إنها تتشابه إلى حد كبير. فكلما ظهرت قضية جديدة أو مفهوم جديد ترى الدراسات تكثر في هذا الباب، بالطريقة نفسها، ولا يتغير غير المتن المشتغل به. ليس هذا عيبا. لكن العيب سيكمن في الطريقة التي ستتبعها الميدانية وهي تحتذي الـ»نموذج» الأول. أي أن الدراسة التي فتحت هذا الباب، تصبح عبئا على ما يأتي بعدها. وليس العبء هنا بمعناه الإيجابي الذي يدعو إلى التعميق، وبذل الجهد. ولكن بالمعنى السلبي الذي يجعل الميدانيين متتبعين خطواتها، في كل شيء، فيكون الاجترار والتكرار، ويكثر عندنا بذلك ليس فقط الميدانيون ولكن الدكاترة الذين سيصبحون مؤطرين، يكونون ميدانيين أكثر جدة.
إن ميدانية الموضوعات المشتغل بها دليل على التراجع والانحطاط، لأنها تجعل الميداني الجديد لا يبذل أي مجهود في اختيار الموضوع والبحث عنه. يكتفي بالجاهز منها، ويحتذي من سبقه، حتى في توظيف المراجع التي سبقه إليها. وهنا نجد المستوى الثاني: اعتماد المراجع.
من وجد الموضوع جاهزا، وطريقة البحث معدة، لماذا يتعب نفسه في قراءة المراجع والبحث عن الجديد منها، مما يتعلق بموضوعه؟ إنه يستعيد المراجع نفسها، حتى وإن كانت في فترة قديمة بالقياس إلى الزمن الذي سجل فيه موضوعه. فيلجأ إلى المراجع والكتب التي يجدها أمامه في كتب من سبقه، ويبحث عن أصولها في الفضاء الشبكي، ويأخذ الشواهد نفسها، ويحيلها على مصادرها التي لم يخرج فلسا في اقتنائها. ولكي يخفي آثار الميدانية، يغير مفردات على أنها من ترجمته الخاصة، وأنه تصرف فيها حسب فهمه واطلاعه.
وقفت مرارا على مثل هذه الظواهر في دراسات ومقالات للنشر. وتعجبت من نوعية المراجع المنقول منها، وكيف أنها تتطابق مع ما هو منشور؟ تشابه الموضوعات، لم ينجم عنه غير تشابه المراجع، ولذلك نجدها تقف على مرحلة الثمانينيات، وكأن الإبداع في تلك القضايا والمفاهيم توقف على هذه الفترة الزمنية. ولو بذل مجهود بسيط، من خلال البحث في الفضاء الشبكي، لتم التوصل إلى مراجع جديدة في الموضوع نفسه، وهي تتجاوز وتطور ما هو متداول في بعض الكتب والأعمال التي كتبت في زمان سابق.
ليس وقوع الحافر على الحافر في الميدان كله سوى تعبير عن تردي الأخلاق الثقافية والإبداعية، ودليل على التدهور والانحطاط.
ناقد مغربي
سعيد يقطين
سبب انتشار هذه الظاهرة من وجهة نظري هو عدم استيعاب مثقفينا لماذا الاسلام حرّم الربا وحلّل التجارة؟
خصوصا وأنّ النتيجة من الاشتغال في الجانبين هو الربح،
فلماذا الربح الأول ممنوع
في حين الربح الثاني مسموح
فالربح الأول ممنوع بسبب أنّه ناتج من الاشتغال بالمال نفسه أي لن يستفيد منه إلاّ جانب واحد أو بمعنى آخر ثقافة الـ أنا
في حين الثاني مسموح بسبب أنّه من الاشتغال بسلعتين مختلفتين بالتأكيد تم انتاجهم من طرفين فتعود بالفائدة على أكثر من طرف أو بمعنى آخر ثقافة الـ نحن.
أي الإبداع لأجل الإبداع ممنوع أو مذموم
ولكن الإبداع لأي شيء آخر مسموح
أي الفن لأجل الفن ممنوع أو مذموم
ولكن الفن لأي شيء آخر مسموح
أي النقد لأجل النقد ممنوع او مذموم
ولكن النقد لأي شيء آخر مسموح
أي السياسة لأجل السياسة ممنوع أو مذموم
ولكن السياسة لأي شيء آخر مسموح
أي الفكر لأجل الفكر ممنوع أو مذموم
ولكن الفكر لأي شيء آخر مسموح
وهكذا
ما رأيكم دام فضلكم؟
وقوع الحافر على الحوافر
بدعوى توارد الخواطر
هو مسلك تكوين الكوادر
قديما يا أستاذنا الباحث القدير كان الحافر على الحافر وبينهما مساحة للاختلاف، واليوم صار عندنا العجلة على العجلة، مما يعني تلاشي كل أثر للأول، وظهر الثاني كأنما هو صاحب الفضل كله، وقد لاحظنا كثيرا من البحوث عندنا لا يكلف أصحابها أنفسهم قراءة كتاب واحد ما دامت الإحالات متوفرة، ولعل ما عمق ذلك هو نشر الجامعات للرسائل الجامعية مع ترك فرصة للنقل المباشر منها، فالسارق لا يبذل جهدا حتى في كتابة النص الثاني، ولقد تناهي لي أن بعض طلبتنا الباحثين قد فوجئوا بكتب تصدر في بعض دول المشرق مثلا لافرق بينها وبين ما انجزوه في سنوات طوال سوى لي عنق بعض الجمل وتشويه بعض العبارات، والدليل هو أن صاحب المركبة الثانية يطل على الناس مباشرة بعد نشر الرسالة الأولى على الشبكة العنكبوتية، فأي دليل يحتج به الأول وقد اكتسحت عجلات الثاني عجلاته غير أن يوكل أمره لله، وأن يقتنع أن البحث العلمي في أيامنا هذه صار ملكا للجميع، ولأي كان أن يمتطيه ليحقق به ما شاء من شهادات يكسب بها رزقه، ولعل العصمة لم تبق اليوم إلى حد ما إلا للإبداع، الذي سيبقة عصيا إلى إشعار آخر ولو زينت السرقات بزينة التناص. الدكتور عزالدين جلاوجي جامعة الجزائر