الميليشيات… المعادلة العراقية الصعبة

ربما أصبحت أكثر كلمة تستعمل في التعاطي مع الحالة العراقية الراهنة هي كلمة ميليشيا، يستخدمها البعض بقصد الإساءة أو السبة، بينما يستخدمها آخرون باعتبارها توصيفا لما يجري على الارض، يقبلها البعض على مضض، ويرفضها اخرون.وفي المعارك الدائرة اليوم على أرض العراق هناك صراع عماده الأساس القوات شبه العسكرية او ما تعرف بالميليشيات.
الميليشيا تاريخيا، قوات غـــــير نظامــــية يتم تشكيلها من المدنيين الذين ينخرطــــون في العمل العسكري لظرف ما يمرون به لمــــقاتلة جيوش نظــــامية، أو قوات عسكرية أو شبه عسكرية، وفـــي العلم العسكري عرفت الميليشيات بمـــرونتها وسرعــــة حركتـــها وصــــعوبة التعامل معها، كما أن تسليحها عـــادة ما يكــــون متوسطا أو خفيفا، مع بعض الإسناد من الأسلحة الثقيلة في احيان قليلة، وربما كانت الصفة الملتصقة بها هي عدم الانضباط الذي يشكل السمة الاساسية للجيوش النظامية.
بعد هذا التوصيف السريع إذا اردنا أن نمحص النظر في المشهد العراقي، سنرى ان هنالك ميليشيات «تنظيم الدولة الاسلامية» (داعش) قد دخلت باعداد صغيرة نسبيا، مئات وربما بضعة آلاف، وفي وقت قياسي استطاعت السيطرة على مساحة من الارض تقدر بثلث مساحة العراق، قوامها المدن السنية في العراق. وكان هذا المشهد محيرا وملغزا، إذ كيف يستطيع عدد صغير من المقاتلين العرب والأجانب دحر الفرق العسكرية النظامية للجيش العراقي في هذه المدن، ولغير العارف بالشأن العراقي لابد من أن نقول إن هذه المدن كانت تشهد تمردا اتسم في بعض الاحيان بالسلمية، على شكل اعتصامات ومظاهرات، وفي احيان اخرى اتسم بالعنف تجاه قوى الأمن والجيش العراقي، استمر هذا التمرد ما يزيد على السنة حتى دخول «داعش» على المعادلة العراقية، فانبرى الساسة السنة الرافضون للعملية السياسية، الذين يشتكون من ظلم وتعسف حكومة المالكي تجاههم، انبرى هؤلاء الساسة لطرح سيناريو «ثورة العشائر» في هذه المناطق ضد حكومة بغداد، وشكلوا ما أطلق عليه «المجلس العسكري لثوار العشائر»، الذي كان عماده ضباطا من الجيش العراقي السابق، إبان حكم نظام صدام حسين، وانكر المتحدثون باسم ثوار العشائر أي وجود لما يسمى «داعش» في هذه المحافظات في البداية، ثم اعترفوا بوجوده كأحد الفصائل المشاركة في التمرد، لينجلي المشهد النهائي على صورة تمرد في المناطق السنية، له جسد عراقي ورأس داعشي «مقاتلون اجانب وعرب «، و»داعش» هو صاحب القرار في هذه المدن. وبات من الواضح ان المكون الاساس لتمرد هذه المدن هو عشائر سنية تمردت على الحكومة، لكنها تتخبط في ظل غياب تام لمشروع سياسي واضح يمكنها التفاوض عليه، مما افقدها بوصلتها ولم تعرف توجهها فانضوت تحت شعار الخلافة الاسلامية المزعومة، وما تستلزمه من بيعة للخليفة البغدادي، وكان الشعار الابرز هو «قادمون يا بغداد»، في إشارة إلى أن زحف التمرد متجه الى بغداد بغرض اسقاط الحكومة وفرض واقع جديد على العراق.
هذا الامر استنفر الجانب الشيعي من الصراع ممثلا بفتوى من المرجع الشيعي الأعلى في النجف السيد السيستاني بوجوب الجهاد الكفائي للتصدي لهذا الهجوم، وحددت شروحات لاحقة للفتوى، ان القتال يجب ان يتم تحت راية الحكومة العراقية الجامعة وتحت إشرافها وضمن القنوات الشرعية لها، ما أوجد «الحشد الشعبي»، الذي تكون في البدء من ميليشيات وتنظيمات شبه عسكرية لأحزاب شيعية، أهمها قوات بدر وعصائب اهل الحق وسرايا السلام، وغيرها من التنظيمات الاصغر، وهنا ابتدأت اشكالية المعادلة الصعبة في المشهد العراقي، الجيش العراقي مدعوم بميليشيا شيعية يقاتل ميليشيا «داعش» مدعومة من بعض القبائل السنية.
لقد تنبهت حكومة العبادي إلى أن مواجهة ميليشيا «داعش» العقائدية لن يكون مجديا بطرق واستراتيجيات القتال التقليدي، وأن الحل لا بد ان يكون عبر مواجهتها بميليشيات «عقائدية» تفوقها عددا، مكونها الأساس المتطوعون الشيعة الراغبون في الاستشهاد، كما هو حال مقاتلي «داعش» مع توفير إمكانات لوجستية تفوق ما يمتلكه «داعش»، خصوصا منظومات الصواريخ الحرارية التي شلت هجمات «داعش» الانتحارية بالسيارات المفخخة، وكذلك العربات المدرعة الخفيفة والسريعة الحركة مع منظومات راجمات صغيرة صينية الصنع محمولة على السيارات الحوضية، وكل تلك المهمات وفرتها إيران عبر دعمها، الذي غير معطيات القتال الدائر على الارض، خصوصا مع إشراك مخططين استراتيجيين مشهود لهم في هذا النوع من الحروب، ربما كان اهمهم الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس للحرس الثوري والمسؤول عن العمليات الخارجية.
في أولى المعارك التي حدثت في إمرلي وجرف الصخر اتضحت نجاعة الاستراتيجية الجديدة، وتوالت الانتصارات الصغيرة في مدن محافظة ديالى والقصبات المحاذية لكردستان العراق، حتى تم الهجوم الاكبر لحد الان على مناطق تكريت والمدن المحيطة بها في محافظة صلاح الدينن بالتزامن مع هجومات على مدن في محافظة الانبار مثل، البغدادي والفلوجة والكرمة وغيرها، وهذه المعارك حققت انتصارات تبدو لحد الان نظيفة للجيش والحشد الشعبي، الذي دخل عليه عنصر مهم للقتال في المدن السنية وهو قتال بعض العشائر السنية من الجبور والدليم مع قوات الجيش والحشد الشعبي، لكن المنظمات الدولية والمراقبون استشعروا خطرا من تنفيذ جرائم انتقام من المدنيين في المناطق المتمردة، وهذا ما لم تثبته تقارير محايدة لحد الان، سوى بعض حالات الانفلات الفردية التي وقعت في المناطق التي سيطر عليها الحشد الشعبي، ولم تعلن حكومة بغداد لحد الان عن تشكيل لجنة للتحقيق بهذه الانتهاكات لتثبت حسن النية للمدنيين السنة في المدن التي مازالت تحت سيطرة التمرد.
وقد طرح اكثر من سياسي ومراقب سني عقدة هي النقطة الاساسية في المعادلة العراقية الشائكة اليوم، وهي؛ وماذا بعد ان تسيطر قوات الجيش والحشد الشعبي على المدن.. من الذي سيمسك بالارض؟ فمن غير الممكن ان تبقى القوات شبه العسكرية في هذه المدن، لان اغلبهم قادم من جنوب العراق لغاية قتالية محددة، والمؤكد انهم سوف يعودون الى مدنهم وحياتهم العادية، الا اذا كانت هنالك خطة مبيتة من قبل الحكومة لدمجهم بالقوى العسكرية والامنية ليبقوا ممسكين بالارض وذلك لغياب الثقة بمواطني هذه المدن. وبحسب بعض الساسة السنة الذين يحذرون من احتمالية وقوع جرائم في مدنهم، عند وقوعها تحت سيطرة الميليشيات الشيعية المكونة للحشد الشعبي، ومشددين على أن الثقة مفقودة بين اهالي هذه المدن والحكومة، فالحكومة تخشى من أن انسحابها سيؤدي الى رجوع المتمردين للمدن، ومن جهة اخرى فان بقاء هذه القوات سيولد تذمرا مماثلا لما حدث قبل يونيو 2014، وهنا طرحت فكرة مازالت تدور بين الدوائر السياسية في البرلمان وبين الكتل السياسية ألا وهي تشكيل مؤسسة شبه عسكرية تسمى الحرس الوطني يتم تشكيلها من ابناء المحافظات المتمردة لتمسك الارض، وهي خطوة يتم فيها استلهام التجربة الامريكية التي نفذت عام 2006 والتي اسميت في حينها «الصحوات»، عبر تشكيل ميليشيا سنية من ابناء العشائر لتقاتل ميليشيا «القاعـــــدة» التي كانت منتشرة في مدنــــهم، وفعلا استطاعت هذه التشكيلات شبه العسكرية أن ترفع عن كاهل الامريكان عبء قتال «القاعدة» في المنطقــــــة الغــــربية من العراق، وهنا يعود المشككون من الطرف الاخر الى السؤال، ومن سيضـــمن ولاء الحرس الوطني الجديد بعد ان يتم تسليحه «علما بأن بعض المتشددين من الساسة الســنة طالبوا بأن يكون التسليح والدعم مباشرة من الغرب، من دون المرور بموافقة بغداد، كما جرى في عمليات دعم كردستان وميليشاتها – البيشمركة – التي تحولت إلى جيش كردستاني عندما هدد «داعش» أمن كردستان ، اذن نحن ازاء جيش سني يتم الاعداد له لمقاتلة داعش والامساك بالارض، وتبقى المعادلة شائكة بانتظار الحسم في المعركة الأهم وهي معركة الموصل لتفرز المواقف على اساسها في المقبل من الايام.

٭ كاتب عراقي

صادق الطائي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    جرائم الحشد الشعبي الطائفية بالمدن السنية اعترف بها مقتدى الصدر نفسه
    والآن منظمة هيومن رايتس ووتش نشرت تقريرها عن تجاوزات الحشد بآمرلي
    وطبعا المجازر التي حصلت بديالى لمدنيين أبرياء سيأتي ذكرها لاحقا بالتقرير

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول د محمد شهاب احمد / بريطانيا:

    نعم هي معادلة عراقية شائكة ، وقد أعاد الكاتب هذه العبارة اكثر من مرة وهذه بدأت مع وقوف اطرافٍ مهمة من الطيف العراقي مع المحتلين ، مبررين ًمهللين ومزينيين ما هو غزو واحتلال إجرامي ، مما عقد الامر كثيراً ، والادهي ان تقوم مرجعيةً كان المتوقع منها الدعوة لمقاومة ما هو واضح غزو إجرامي ، الدعوة الي جهاد كفائي كان واضحا انه سيكون حشد طائفي مع ما قد يجلبه ذلك من احتمال تحوله الي صراع مفتوح .
    اخيراً اقولُ ان ما مر بالعراق قبل الغزو ، ومع ملاحظة ان الأمريكان أثبتوا انهم أسوأ المحتلين ، فأن العراقيين وهم أهلي اثبتوا انهم أسوأ من أُحتلوا !…وويلي علي العراق

إشترك في قائمتنا البريدية