هل استطاعت النُخب الفكرية والسياسية العربية، مواكبة الحراك الجماهيري العربي، المُطالب بالعدالة الاجتماعية، والذي بدأ من تونس بنهاية 2010، وهل استطاعت وضع الأطر النظرية، لقيادة هذا الحراك الشبابي، والذي كما يبدو، لن يوقفه أحد، مهما طالت فترة الثورة المُضادة. فإرادة التغيير، بهذه الطبقة الشابة المُنفتحة على العالم، أقوى بكثير، من قوى الظلام والتحجر.
تتبع هذه المرحلة، مرحلة سابقة كان عنوانها، التحرر من الاستعمار والأنظمة الاستبدادية المُنبثقة عنها، والتي لم تترك أي هامش ديمقراطي، فهي أقرب إلى الأنظمة الشمولية، كما حدث في ألمانيا النازية أو في إيطاليا الفاشية أو في روسيا الشيوعية.
لم تتمكن النُخبة من استيعاب دخول الأمة إلى هذه المرحلة الجديدة، والتي عنوانها الانعتاق من الاستبداد، واسترداد حقوق الناس الاجتماعية والسياسية، والانفتاح واللحاق بالعالم، ووضع أسس الدولة العربية الحديثة، كما حدث في بلاد عديدة أخرى.
الجماهير العربية التي بدأت الربيع العربي، خصوصاً من فئة الشباب المثقف، كانت متلاصقة مع طبيعة المرحلة الجديدة عبر العالم، والتي بدأت في أوروبا الشرقية ثم أمريكا اللاتينية وافريقيا وآسيا، بينما النخب كانت على انفصال كامل عن هذا الواقع. لذلك وجدت الثورات المضادة، آذاناً صاغية، لدى هذه النخب في الدول المُصنفة يسارياً كسوريا، وحصلت على دعمهم ووقفت مع الغزو الروسي وريث الاتحاد السوفييتي حليفهم السابق، بينما حاولت التحالف وتقاسم السلطة مع الثورات المضادة في الدول الأخرى كمصر، لأنها بطبيعتها تهدف للوصول إلى السلطة بأي وسيلة، حتى ولو داست على القيم الديمقراطية.
أبناء الربيع العربي كانوا متناغمين مع الواقع الجديد، بينما النخب والأحزاب، لم تر هذا الواقع وما زالت أسيرة الماضي. أما مصلحة إسرائيل فهي بكل تأكيد، مع بقاء الديكتاتوريات العربية، يمينها أو «يسارها»، ممانعها أو مهادنها، لأن هذه الأنظمة هي التي حمت إسرائيل، وبررت الدعم الغربي الدائم لها على مدار عقود، وأبعدت إمكانية تحرير فلسطين، لأننا لا نستطيع فعل ذلك بجيش من العبيد والرعايا.
التناقض مع الأنظمة، والتي مزقت الأمة وشرذمتها، كما نرى في السودان مثلاً (حيث لا يوجد ربيع عربي قوي حتى الآن) هو عنوان هذه المرحلة الجديدة، والتي بدون حل تناقضاتها، وبناء مجتمعات وأنظمة ديمقراطية، كما حصل في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية أو آسيا، لن نستطيع مواجهة إسرائيل أو الإمبريالية، ولا بناء وطن عربي، يضع المواطن بقلب اهتماماته، وتحقيق مطالبه كهدفه الوحيد.
أبناء وشباب الربيع العربي، في كل أماكن تواجدهم، هم الوحيدون المؤهلون، لوضع أسس الفكر العربي الحديث، ودفع الوطن العربي للولوج إلى عالم الحداثة من جديد، بعد فشل محمد علي باشا، بفعل ذلك خلال القرن التاسع عشر في مصر، وكذلك انتهاء حركة التنوير، والتي بدأت مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في بداية القرن العشرين. على أن توحدهم بمختلف دولهم، ووضع أسس موحدة لنضال مشترك، هو ما سيكفل لهم النجاح في هذه المهمة الصعبة، وخصوصاً عندما نرى تكالب الأعداء من كل حدب وصوب، لوأد أي تعبير ديمقراطي، مهما كان وأينما كان.
إن توحد قوى الماضي المستبدة، كما نراه حالياً، يجب أن يكون دافعا لتوحد قوى المستقبل، ووضع أهداف واضحة للتجديد السياسي والعمل المتكامل على امتداد الساحة العربية، كما فعل الآخرون بنجاح في مناطق أخرى من العالم مثل أمريكا اللاتينية أو أوروبا الشرقية.
كذلك إن وضع الإنسان المواطن، كهدف لكل ما نعمل أو نبني، ورفع قيم الإنسانية والحضارة في كل مواثيقنا، مهما كانت هذه القيم مُغيبة ومُنتهكة في بلادنا، هو ما يجب أن يُؤسس لبرامجنا السياسية في هذه المرحلة المعقدة مع آلامها الهائلة، ولكن أيضاً مع آمالها العظام.
كاتب فلسطيني
د. نزار بدران