لم يعد من الممكن التقليل من شأن الهجمات الإرهابية التي تطـــال المدن التركية، التي كان آخرها ما حدث في الأسبوع الماضي (يومي السابع والثامن من هذا الشهر) واستهدف اسطنبول وماردين.
صحيح أن المناوشات الدامية استمرت منذ عقود بين الدولة التركية والحركات الكردية، إلا أنها ومنذ العام الماضي دخلت مرحلة جديدة لم يعتد عليها الأتراك، حيث لم يعد الأمر يتعلق فقط بالضربات الحدودية وجبهات القتال في مناطق التخوم الكردية، بل صارت الضربات الموجعة تستهدف أكثر العمق التركي، ومدناً كأنقرة العاصمة واسطنبول. بدا واضحاً أن هذه الحركات، وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني، استفادت كثيراً من الوضع الإقليمي لتقوية تعزيزاتها وتطوير أدواتها الدفاعية والهجومية، ما جعل مهمة القوات الأمنية والعسكرية أكثر صعوبة من السابق.
الحزب تمكن مؤخراً، على سبيل المثال، من إسقاط مروحية تركية وهو ما أكد امتلاكه لصواريخ متقدمة مضادة للطائرات، ما يشكل بالتأكيد نقلة نوعية في عمل هذه الحركة المسلحة. لا يمكن الحديث عن إرهاب هذه الحركات بالتركيز فقط على الداخل التركي، بل إن الأمر لا ينفصل عن الوضع الإقليمي خاصة التعقيد السوري الذي جعل من المتطرفين الأكراد ممثلين «بقوات سوريا الديمقراطية» الذراع الأهم لقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. لقد قدمت الأرض السورية تجربة وتمريناً نوعياً لتلك القوات، وعلى رأسها «وحدات حماية الشعب السوري»، وأكسبتهم خبرة في حرب المدن وفي تطوير عملياتهم، من خلال المشاركة في المعارك كذراع أرضية للغرب في مواجهة تنظيم الدولة. هذه المجموعات استطاعت نقل تكنيك التنظيم الإرهابي الذي يحاربونه في استخدام العربات المفخخة والعبوات الناسفة والاستفادة منه كسلاح رعب جديد في الداخل التركي.
الغرب الذي كان يبحث عن قوى معتدلة تستطيع القتال ضد تنظيم الدولة وجد ضالته في هذه المجموعات التي كان أكثرها مصنفاً كحركات إرهابية سابقاً، ولم يجد ذلك «العالم الحر» حرجاً في تسليحها بمختلف أنواع الأسلحة من أجل أن يكفل لها انتصاراً على «الإرهابيين».
يحاول الأكراد الاستفادة من هذا الاحتضان الغربي من أجل التمدد، خاصة أن دولا معادية لتركيا تسعدها هذه المضايقات التي تقوم بها المليشيات الكردية وهي مستعدة لتقديم أنواع مختلفة من الدعم خاصة للاتجاه الانفصالي الذي سيشكل تهديداً امنياً مباشراً لتركيا.
مهمة الجانب التركي معقدة، فهو يواجه خلطاً متعمداً بين المطالب الكردية المشروعة مثل، احترام اللغة والثقافة والهوية الخاصة، وبين السياسة المسلحة التي تعلن أنها لا تفرق بين مدني وعسكري، وأنها تعتبر كل مكان هو ساحة معركة على غرار بيانات حركة «صقور كردستان الحرة» التي تبنت العمليتين الأخيرتين. في الوقت الذي يتعاطف فيه العالم مع المطالب الكردية بصوت عال، لا نكاد نسمع لذلك العالم صوت انتقاد جدي لهذه العمليات التي تقدمها هذه المجموعات كوسيلة نضالية مشروعة. حتى في الداخل التركي فإن عدداً من الصحافيين والسياسيين كانوا يجاهرون بدعمهم لهذه العمليات، ما أثار غضب حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي اعتبر أن أولئك الذين يدعمون برنامجاً فوضوياً يهدف إلى تخريب الاقتصاد والسياحة هم غير وطنيين.
آخر إجراء ضد أولئك كان التصويت على تجريد البرلمانيين الداعمين للإرهاب من حصانتهم توطئة لمحاكمتهم. هذا الاجراء سيلقى انتقاداً واسعاً وستتم قراءته كتوجه حكومي رسمي لاقصاء ممثلي حزب الشعوب الديمقراطية، الذي يمثل المطالب الكردية. لكن ذلك لن يكون الانتقاد الوحيد الذي سيواجه الحكومة فهي تتحمل، بحسب منتقديها، المسؤولية حتى عن الهجمات الإرهابية التي فشلت في منعها وحماية المواطنين منها، كما تتحمل مسؤولية مراهنتها على الحلول الأمنية ضد المتمردين ومسؤولية عدم الوصول إلى حل نهائي يلبي تطلعات الأكراد.
تبدو تركيا في وضع لا تحسد عليه، أما أجهزتها الأمنية، فبالإضافة إلى مراقبة الحدود الممتدة والتدقيق في مرور العابرين، خاصة من اللاجئين السوريين فإنه صار عليها أيضاً تعلية الحس الأمني الداخلي والانتشار ليس فقط في أماكن التوتر والتماس التقليدية مع المقاتلين الأكراد، بل على طول الجمهورية.
كل هذا مرتبط بلا شك بعلاقات تركيا الخارجية التي ساءت مع أكثر من طرف، فكثر الخصوم وقل الأصدقاء، وهو ما يظهر في تغطية الإعلام الغربي وعدد كبير من القنوات العربية للشأن التركي، وقضية مثل قضية التفجيرات الأخيرة، حيث يبدو الأمر حينها أقرب للشماتة والتشفي.
أحب هنا أن أذكر ببعض النقاط التي قد تعين على النظر إلى الموضوع بشكل أشمل. أول هذه النقاط يتعلق بحزب الشعوب الديمقراطية. هذا الحزب يظنه البعض حزباً كردياً لعلاقته الوطيدة بالمجموعات الكردية، خاصة حزب العمال الكردستاني، ولوقوفه ودعمه المستميت لأجندته القومية، لكن في الواقع فإن الأكراد يشكلون نسبة ضئيلة جداً من حزب الشعوب الذي يقوم بالأساس على اليسارية المتطرفة ويتخذ من هذه القضية وسيلة للنكاية بحزب العدالة والتنمية خصمه اللدود. يعيب كثيرون على هذا الحزب عدم تفريقه بين ما هو حزبي وما هو وطني وقد شكل انحيازه إلى روسيا وزيارة رئيسه إلى موسكو في بدء أزمة اسقاط الطائرة صدمة للكثيرين.
النقطة الثانية هي أن عمر القضية الكردية يمتد لعقود، وهي قضية شائكة لأنها تتعلق بهوية الدولة القومية على الطريقة الأتاتوركية التي كانت ترى أن تركيا للأتراك وأن جميع سكانها يجب أن يبقوا أتراكاً بالأساس، لأن أي تقسيم أو تعزيز للهويات المحلية قد يقود إلى دمار الوطن.
النظر إلى الأمر بهذه الطريقة هدد الثقافة الكردية التي كانت تفتخر بنفسها، حيث اعتبرت اللغة التي يتحدث بها الكثيرون في مناطق مختلفة وشاسعة داخل وخارج تركيا لغة ممنوعة وغير رسمية. لهذا فإن مشكلة الأكراد الحقيقية ليست مع حزب العدالة والتنمية، بل على العكس من ذلك فإن الحزب قد بادر بالاعتراف بما أطلق عليه «قضية كردية» تستوجب الحل وهو بحد ذاته مرحلة متقدمة مقابل العهود السابقة والتي كان يتم فيها إنكار ذلك بشكل مبدئي.
أما النقطة الأخيرة فهي سؤال لا أمتلك إجابته وهو التالي: للأكراد امتداد إقليمي واسع ومعروف، وهم معروفون بقدرتهم على المطالبة بحقوقهم في العراق وسوريا وتركيا حتى إبان العهود الأكثر صلابة وشمولية، لكن بالمقابل فإن أكراد إيران لا يسمع عنهم أحد أو عن محاولاتهم لأخذ حقوقهم باللين أو عبر الهجمات المسلحة. ربما يكون أقصى ما قاموا به في السنوات الأخيرة هو تظاهرات عام 2015، التي انطلقت إثر محاولة عنصر أمن اغتصاب فتاة كردية.
كيف استطاعت إيران أن تحمي نفسها من نشوء حركات كردية مسلحة بالنظر للارتباط الوثيق بين المجموعات عبر الدول المختلفة؟ ربما بالطريقة نفسها التي حمت بها نفسها من القاعدة عبر شراكة ذكية معها مقابل عدم تنفيذ أي أعمال على أراضيها، أو ربما يعود السبب لأكراد إيران أنفسهم والذين أجبرهم ظرف بلادهم الخاص على أن يكون أقصى طموحهم هو الحكم الذاتي.
الأكيد هو أن حظ إيران جيد مقارنة بجيرانها، فرغم مساحتها الشاسعة وتنوع خلفيات سكانها ومذاهبهم، إلا أن أحداً من أعدائها المفترضين لم يحاول بجد التدخل في شؤونها والعبث بطوائفها، أو خلق مجموعات موالية له كما تفعل هي في دول الخليج، بل في أكثر من مكان.
أما في تركيا فإن خطورة النسخة الجديدة من إرهاب المجموعات المسلحة الكردية لا تكمن فقط في حصولها على أسلحة عسكرية ومعينات فنية متطورة، بل في استنادها على تسويات إقليمية منحت تحركاتها شرعية ودعماً يصل في بعض الأحيان إلى حد التستر على جرائمها غير المبررة بحق المدنيين، خاصة في سوريا. هذا يجب أن يقابل على الجانب التركي بتغيير التكنيك بما يتناسب مع التحديات الجديدة وهو ما قد يؤدي في المرحلة المقبلة إلى تراجع الدور العسكري مقابل الحلول التفاوضية، لا مع قيادات هذه الحركات فقط، بل مع الشركاء الدوليين أيضاً.
٭ كاتب سوداني
د. مدى الفاتح