النسيان هو أجمل النعم الإلهية. فالجهل مثلا يمكن تعويضه بالعلم، والفقر يمكن تعويضه بالعمل والكسب، والفقد يمكن تعويضه بالصبر، لكن الإنسان حتى الآن لم يستطع أن يتغلب على النسيان. إنه يحاول وهناك عشرات العقاقير التي تساعد على التذكر، لكن يظل النسيان قائما مهما فعلت ومهما قاومت، وفرويد عالم النفس الشهير قدّم تفسيرا صائبا للنسيان، أن ما تنساه هو ما ليس لك رغبة فيه فاللاشعور يساعدك ويطرد ما لا تحبه من الذاكرة، لتتوازن شخصيتك. وفرويد هنا لا يتحدث عن النسيان الذي قد يحدث لأسباب فيزيقية تتعلق مثلا بتقدم العمر أو حوادث تصيب المخ بفقدان الذاكرة، فرويد هنا يتحدث عن الشخصية السوية ولقد قرأت منذ زمن قصة قصيرة لكاتب روسي، نسيت اسمه للأسف، لأسباب من المؤكد أنها تتعلق بالعمر، لكنني لم أنس القصة التي كانت عن شخص يشعر بالضيق من النسيان، ويشعر بالأذى لأنه ينسى أشياء مهمة، وأناسا لا يريد أن ينساهم.
شغله موضوع النسيان وضيقه منه فأصبح الصباح وهو يتذكر كل شيء وظل طول النهار تتوافد عليه الذكريات مليئة بالأحداث والناس من كل صنف، حتى إذا وصل إلى آخر النهار انفجر رأسه في كل اتجاه. وهنا تظهر نعمة النسيان. وبالنسبة لشخص من جيلي مثلا ممكن جدا بسهولة أن تنفجر رأسه إذا تذكر السنوات التي مضت على مصر والمصريين منذ ثورة يوليو/تموز، فعلي سبيل المثال سيتذكر مثلا أنه بعد حرب السويس انطلقت مصر وصارت قوة لها حسابها في إفريقيا وآسيا، ولعبت دورا كبيرا في تحرير كثير من البلدان العربية والإفريقية ثم انهزمت، ورغم الهزيمه في 1967 ظلت قادرة على الصمود حتى انتصرت في اكتوبر/تشرين الأول 1973 وبعد ذلك جرى ما جرى من نهب لثرواتها ومن فوضى في الحياة الاجتماعية، جعلت العشوائيات تزيد عن الأحياء الحقيقية وارتفع فيها معدل البطالة ومعدل العنوسة ومعدل الجرائم، التي أخذت أشكالا لم تخطر على بال أحد من قبل، وصار فيها أكثر الناس تحت خط الفقر، وسيمشي أبناء جيلي المساكين في ذكرياتهم فيتذكرون أنهم يوما ما استطاعوا أن يقيموا البلاد عن بكرة أبيها عام 1977 احتجاجا على زيادات تافهة في الأسعار، قياسا على ما يحدث الآن، سيتذكر أبناء جيلي أنهم كانو إذا اشتد عودهم يقرأون الكتب الكبرى التي تجعلهم باحثين عن الحقيقة والعدل، وكيف كان اليسار هو الراية الجاذبة لهم، ثم كيف تفرق أهل اليسار وكيف صار الناس يولون وجوههم شطر جزيرة العرب يأخذون منها قشور الإسلام. سيتذكر أبناء جيلي أن اليسار أصبح في خبر كان، وأن اليساريين الاذكياء انتقلوا من الأمميى إلى العولمة ببساطة، وأنهم أيضا صاروا محاصرين بالفكر السلفي الذي لن يستريح إلا إذا انهدمت كل البيوت، وصارت مصر صحراء فتأتي الخيام من البادية. سيتذكر أبناء جيلي أنه في الستينيات والسبعينيات كانت النساء يرتدين «المودات» الأوروبية وكان «الجيب» والميكروجيب زيا عاديا، وكانت المايوهات العادية والبكيني على البلاجات، ولم يكن هناك تحرش جنسي، كما هو اليوم، ولا اعتداء على المرأة كما هو اليوم، لأن المرأة كانت تنطلق في النهضة على قدم المساواة مع الرجل، ولم يكن ينظر إليها باعتبارها مجرد وعاء جنسي. كانت المرأة ومعها الرجل يجنيان ثمار ثورة تحرير المرأة التي انطلقت بقوة بعد ثورة 1919 .
الحمد لله على نعمته التي أسبغها على ذلك الجيل الذي أخذ مصر ووضعها درة وسط البحر المتوسط، فأحس بالرضا والفرح، ثم حين تقدم به العمر رحل قبل أن يفتك به هول الذاكرة. سيتذكر جيلي المسكين أنه بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 اكتشف أن كعب أخيل للتجربة الناصرية كان غياب الديمقراطية، وإنه لو كانت هناك ديمقراطية ما وقعت الهزيمة، لأننا كنا سنعرف على وجه الدقة قدراتنا، وإنه، هذا الجيل، طالب بالديمقراطية لكنه لم يفز بها ولا فازت البلاد إلا بحرية الكلام في الصحف التي في الغالب لا يهتم لها أحد، لكن ما كان يقال عن شراء الأصوات قبل 1952 بعشرة قروش أصبح كلاما خياليا، فالصوت الانتخابي الآن بخمسين ومئة جنيه ووجبه في المصالح والشركات، وبأكثر من ذلك على باب اللجان. مسكين جيلي سيتذكر كيف كان الفصل الدراسي في المدارس الحكومية بالكاد يصل إلى عشرين تلميذا، ولم تكن هناك دروس خارج المدرسة، ثم أصبح الفصل الآن ثمانين ومئة، والسبب أن أهل الإسلام الزائف قالوا تناكحوا تناسلوا والدولة تركتهم يتناكحون ويتناسلون وسرت الدعوة في الشعب كله الذي تركته الدولة لزوايا وتكايا الوهابية، وبعد أن وصل التعداد إلى مئة مليون شتمت الدولة الشعب، وقالت له أحنا حنعمل لكم أيه عمالين تاكلو وتشربوا شاي وتخلفوا، كأن ذلك حدث في غيبة عن الحكومة والحكم .
سيتذكر أبناء جيلي أن القاعدة في العلم أن يذهب التلميذ إلى المدرسة، ومن لا يذهب هو «المزوغ» والقاعدة الآن ألا يذهب التلميذ إلى المدرسة. سيتذكر جيلي من أبناء القاهرة إنه كان يقف في الكيت كات فيرى الهرم والآن لا يرى الهرم إلا إذا ذهب إليه وحتى هذا ليس مباحا في كل وقت وسيتذكر الإسكندريون أمثالي أنهم كانوا يصطادون السمك في البحر والبحيرة، أما الآن فلا وجود للبحيرة، مريوط أعني، والبحر هجره السمك من التلوث واستولت عليه نوادي الخاصة. سيتذكر جيلي أن جيلا جديدا أشعل ثورة كبيرة يوما، لكن كان المتربصون بها أقوى وأذكى فاتهموه بالعمالة لإسرائيل ثم أقاموا احتفالا بالذكرى السبعين لقيام إسرائيل في فندق يطل على ميدان التحرير، فأصبحت ذكريات الميدان مع الانتفاضات والثورة عبر التاريخ حكايات لم تحدث على الأرض وأحلام مجانين وعلينا أن ننساها! وإذا لم يمن الله علينا بنعمة النسيان فنحن – جيلي – يذهب أفراده كل يوم إلى السماء. لكن هذا الجيل الجديد رحلته مع النسيان ستكون قاسية لأنه ابتدأ بالآمال الكبيرة يراها تتحقق حوله في بلد مثل تونس وتضيع في بلده، الذي منه كان يصل التغيير إلى كل البلاد. لقد تم بسرعة إحباط آمال هذا الجيل الجديد وكل يوم تغلق أبواب أي أمل . الذكريات تتساقط من حول رأسي ولابد أن ذلك يحدث مع جيلي، لكنها لن تتساقط بسهولة من حول رؤوس هذا الجيل لكن من يفهم في هذا العالم القبيح القاتل إنه لا يمكن إجبار الشباب على النسيان.
٭ روائي مصري
إبراهيم عبد المجيد
بعض المثقفين ينسى، أو يتجاهل أن البلاد وقعت تحت حكم عسكري غشيم وجاهلمنذ ستين عاما أو يزيد، اعتمد في حروبه وإنجازاته على الأغاني والإنشاء، واستخدم نخبة أماتت ضميرها من أجل بعض الفتات، وأسهمت بالتشهير أو الصمت في إقصاء النخب الفاعلة، وتواطأت على انتهاكات حقوق الإنسان،شاهدت كيف صنع العسكر مجموعات من السلفيين وأشباههم لإلهاء الشعب عن قضايا الحرية والديمقراطية، وأسسوا لتنظيمات سرية بغيضة من البصاصين تخصصت في كتابة التقارير إياها، وإفساد التعليم والثقافة والأدب والسينما والإعلام والاقتصاد والحياة العامة، وللأسف فإن أغلب هذه التنظيمات كان من المنادين بعد ثورة يناير العظيمة باستدعاء العسكر والانقضاض على الديمقراطية، وسحق الأغلبية الشعبية تحت ثقافة جنازير الدبابات التي لا تتجه إلى العدو، ولكنها تستمتع بسحق كرامة المواطن الذي يدفع ثمنها ومرتب من يقودها، وقيمة ملابسه وبيادته.
للأسف صرنا ننسى كل شيء عدا ممارسات العسكر، وأتباعهم من النخب التي ترى تحرير المرأة منفصلا عن تحرير الوطن، وتضعه في زاوية تحريره من الملابس والأخلاق، ثم تتباكي على التحرش، وزيادة النسل التي تعدها بعض الدول المتقدمة ثروة غالية، وإن كان العسكر الفشلة يؤمنون دائما بالانسحاب من مواجهة الواقع علميا وتفكيكه!