بدأت حرب النصرة على الفصائل الموصوفة بالاعتدال، في شرقي حلب، إبان حصارها المؤلم من قبل ميليشيات النظام وتحت القصف الجوي الروسي المدمر، علماً بأن عدد عناصرها كان قليلاً نسبياً وفق جميع المصادر. بل يمكن القول إن هذه الحرب تم التمهيد لها منذ بداية عملية درع الفرات التي شاركت فيها فصائل محسوبة على تركيا تحت قيادة الجيش التركي، حين أصدرت الجبهة فتوى بتحريم القتال تحت قيادة الأتراك وبتغطية من طيران التحالف، برغم أن العملية لم تكن تستهدف النصرة، بل «داعش» ووحدات حماية الشعب الكردية.
واليوم، تواصل النصرة (جبهة فتح الشام باسمها الجديد) حرب هيمنتها على ما تبقى من مناطق «محررة» في محافظة إدلب، والريف الغربي والشمالي ـ الغربي لمحافظة حلب، ضد جميع الفصائل الأخرى، وعلى رأسها أحرار الشام -أكبر تلك الفصائل- بصورة متزامنة مع اجتماع آستانة الذي شاركت فيه تسعة فصائل تتمتع تركيا بنفوذ كبير عليها، كما تستطيع خنقها، إذا أرادت، من خلال منع تزودها بالإمدادات الحيوية عبر حدودها مع سوريا.
الواقع أن النصرة التي تأخرت كثيراً في إعلان فك ارتباطها مع منظمة القاعدة، بناء على طلب الجهات الداعمة وضغوطها، وغيرت اسمها، وكشف زعيمها الملثم أبو محمد الجولاني عن وجهه، في بادرة رمزية لفتح صفحة جديدة، لم ينفعها كل ذلك في إزالة اسمها من قوائم المنظمات الإرهابية لدى الأمم المتحدة، أو تجنب استهدافها من قبل الروس والأمريكيين معاً. أي أن «التحولات» التي أرغمت الجبهة عليها، على شكليتها، لم تنعكس عليها إيجاباً، بمعنى قبول خصومها الكثر بمسايستها بدلاً من شيطنتها وإعلان حرب إبادة ضدها. لا نعرف يقيناً هل كان لتعاطٍ سياسي مع جبهة النصرة أن يثمر تحولات أعمق في بنيتها الإيديولوجية والتنظيمية ونهجها الحربي، أم أن تحولات من هذا النوع متعذرة بنيوياً لدى السلفية الجهادية. فهذه المسايسة لم تجرب أبداً منذ إعلان «العالم» الحرب على الإرهاب، مقابل تكريسها (أي المسايسة) نهجاً وحيداً في التعاطي مع جهات إرهابية أشد خطورة وفتكاً، كنظام الأسد الكيماوي والمحتل الإسرائيلي، ما دام فتكهما محصوراً في النطاق المحلي.
بدلاً من ذلك، شكل موضوع «فصل النصرة عن الفصائل الأخرى»، تمهيداً لشن حرب إبادة ضدها على غرار داعش، سبباً لانتهاء التوافق الروسي ـ الأمريكي بشأن وقف الأعمال العدائية منذ شهر أيلول/سبتمبر 2016، أو هذا هو الظاهر على الأقل من أسباب انتهاء التفاهم المذكور. وهكذا حل محله التفاهم الروسي ـ التركي الذي لا نعرف بعد كامل تفاصيله، وإن كانت التطورات الميدانية تكشف جوانب منها بصورة تدريجية. لكن ما بات بحكم المؤكد هو أن جبهة النصرة خسرت ظهراءها الإقليميين، وباتت في حالة حصار، مستهدفة من جميع القوى الفاعلة، من الروس والأمريكيين وحلفائهما بصورة مباشرة، ومن الأتراك بصورة غير مباشرة عن طريق التخلي والخنق.
فلا غرابة، والحال هذه، أن تتصرف النصرة كالقط المحاصر الذي لن يفيده الاستسلام في إنقاذه من المصير المحتوم. هذا الوضع يشبه الوضع الذي وجد داعش نفسه فيه قبل نحو ثلاث سنوات، ومن المحتمل أن مصير الجبهة سيتجه، من الآن وصاعداً، الوجهة نفسها. وقد جاءت الضربات الموجعة الأولى من طيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، واستهدفت قيادات ميدانية بالجملة تأكيداً على هذه الوجهة. فهل سترد الجبهة بعمليات خارجية في المدن والعواصم الأوروبية؟ وهل تعلن «إمارتها» التي سبق ووعدت بها، بعد القضاء على الفصائل الأخرى في مناطق السيطرة المشتركة؟ هذه احتمالات لا يصح التقليل من شأنها إذا توافرت للجبهة الشروط الذاتية الملائمة: أي تمكنها من فرض سيطرتها الأحادية على مناطق تواجدها، ووجود خلايا نائمة لها في عواصم العالم، وهو أمر افتراضي، إلى الآن، بالقياس إلى ماضي الجبهة الذي لم يشهد أي عمليات خارج سوريا.
حركة أحرار الشام التي نأت بنفسها عن المشاركة في اجتماع آستانة، مراعاةً لشريكتها في غرفة عمليات جيش الفتح أي جبهة النصرة، لم تعترض، بالمقابل، على مشاركة الفصائل الأخرى، مراعاةً لظهيرها التركي هذه المرة. من المحتمل أن هذا الموقف «التوفيقي» صادر أيضاً من التفاعلات الداخلية في قيادة الحركة، كان من أبرز تجلياتها انشقاق شهدته الحركة، قبل حين، فخرج منها «جيش الأحرار» الأقرب إلى النصرة مما إلى الحركة الأم.
لم يكن سقوط حلب، بالطريقة الدراماتيكية التي حدث بها، إلا القطرة التي طفح معها الكيل بالنسبة لتحولات المشهد الميداني في الشمال والصراعات البينية فيما بين الفصائل. فقد بدأت النذر تظهر منذ بداية المصالحة التركية ـ الروسية التي ارتقت إلى مرتبة تفاهمات عميقة في الموضوع السوري، في مركزها قبول تركيا ببقاء بشار الأسد في الحكم، حالياً على الأقل، مقابل إطلاق يد الجيش التركي في حربه على الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. وتسهيل إسقاط حلب، ولجم الفصائل المحسوبة على أنقرة وإرغامها على المشاركة في تسوية سياسية ترسم حدودها روسيا، مقابل شراكة تركية ندية في رعايتها.
كانت جبهة النصرة هي الخاسر الأكبر من التحولات في السياسة التركية تجاه سوريا، ومن المحتمل أن تكون حركة أحرار الشام هي الخاسر رقم اثنين بعد رفضها المشاركة في اجتماع استانة، وبدء استهدافها الآن من قبل حليفها السابق جبهة النصرة. تراهن النصرة في حربها على الفصائل على استسلام مقاتليها وانضمام كثير منهم إليها، وهو ما ينطبق أكثر ما ينطبق على أحرار الشام المهددة بالتحلل والذوبان في الجهة الأقوى من التيار السلفي الجهادي، أي النصرة.
إذا نجحت النصرة في إخضاع الفصائل في محافظة إدلب وأعلنت إمارتها عليها، سنكون أمام مأساة جديدة تكرر مأساة الرقة: حرب إبادة أمريكية ـ روسية، يقتل فيها المدنيون ويرغمون على التشرد والنزوح.
٭ كاتب سوري
بكر صدقي
مقال معتدل ومنصف لكن إمارة النصرة لم تطالب بها جبهة النصرة نفسها
جبهة فتح الشام ( النصرة سابقاً) هي الملاذ الأخير للثوار السوريين مقابل تدخلات الدول المحتلة لسوريا
الشعب السوري هو المقرر الوحيد في إختياره شكل الحكم بعد التحرير كنظام إسلامي مثلاً أو نظام علماني أو إشتراكي أو ليبرالي إلخ
ولا حول ولا قوة الا بالله