النظام التائه

يحلو لبعض المواطنين في مصر أن يهنئوا أنفسهم على نجاتها ـ حتى الآن على الأقل ـ من مصيرٍ مشابهٍ للعراق وسوريا وليبيا (هذه من عندي كونها ليست مذكورة في الصيغة الرسمية «أحسن من سوريا والعراق») بعد موسم ثوراتٍ مغدورةٍ، صار التباهي فيها ليس بالمكسب، وإنما بالخسارة الأقل، كما يحلو لهؤلاء أنفسهم أن يروا في مؤسسة الرئاسة الآن، وفي الرئيس تحديداً، قيادةً تاريخية، محنكةً بارعةً، تعرف كيف تلعب سياسة وتدير الصراع الإقليمي، مستغلةً أوراقها جيداً، خاصةً بعد ضربة ليبيا الجوية التي ينبغي الاعتراف بكونها كانت موفقة على الصعيد الجماهيري… الجماهيري فقط، لقطاعاتٍ واسعة تتوق للكرامة الوطنية وتريد يائسةً أن تطرد من وعيها وأفقها فكرة وواقع الضعف والترهل وتآكل الدور وضعة الحال.
فالصورة الحقيقية تكمن في مكانٍ آخر، بعيد كل البعد عن تلك الممتلئة شمماً وقدرةً وكبرياءً.. الصورة الحقيقية المفزعة والمحزنة لنظامٍ مترهلٍ لم يعد لديه الكثير من الأوراق، بعد ان سقطت منه واحدةً تلو الأخرى إبان سنين الركود والركون المديدة، ولئن كان النظام ممثلاً برجالاته ورأسه بدأوا يدركون ذلك بطريقة مريرة وربما مهينة، فمازال على عموم الشعب أن يكتشفوها، ولن أقول أن يتصالحوا معها بالضرورة.
ليست المرة الأولى التي أؤكد فيها كغيري ذلك الارتباط الحيوي والعضوي بين نظام السيسي والمحور الخليجي المكون من السعودية- الإمارات- الكويت، الذي تلعب المملكة فيه الدور الأثقل والقيادي بلا شبهة جدال، ولست مبالغاً إذا قلت إن ذلك النظام ولد مديناً لدول ذلك المحور، محكوماً بمشروعها وتصوراتها الإقليمية وانحيازاتها الاقتصادية، كما أنه يعتمد عليها لبقائه بلا مواربة وبدون خجلٍ، حيث تمد له شريان الحياة في صورة المساعدات المادية بصورةٍ أراها، وبكل أسفٍ، مهينة؛ بالطبع يجب ألا يتسرب إلينا أدنى شك في كون مصلحة دول الخليج تحكمها في المقام الأول، حيث تهدف من ذلك إلى تحجيم الثورة في مصر، لكيلا تعيد سيناريو مصر الناصرية، التي تصدر الثورة لمحيطها، وربما حفاظاً على الكيان القومي الوحيد الذي مازال متماسكاً بعد سقوط العراق، لكن علاقة شهر العسل تلك تكدرت في الآونة الأخير بفعل عدة متغيراتٍ تطال طرفي العلاقة.
من ناحية، ليس سراً أن ثمة مستجداتٍ فرضت نفسها فغيرت أولويات وتوجهات الأسرة الحاكمة في السعودية، بعد رحيل الملك عبد الله، خاصةً بعد استيلاء الحوثيين على مقاليد الأمور في اليمن. لقد فوجئت دول المحور التي ذكرناها بتمدد النفوذ الإيراني الذي بات يطوقها، وينبغي ألا ننسى أن تلك الدول أســــهمت في ذلك، حين دعمت ضرب العراق واحتلاله مسقطةً ما ثبت متأخراً أنه كان النظام الوحيد الذي نجح في التصدي لنوازع التغلغل الإيراني، المستند إلى المذهب والطائفة ضمن اشياء أخرى؛ وكأني بقادة تلك الدول الآن يعضون أصابع الندم على ما جنوه على نفسهم بجريمة العراق الكارثية من شتى النواحي.
مصر السيسي لا تشغل بال المملكة الآن، ولا تحتل مقاماً متقدماً في قائمة أولوياتها، فالبلد مرهق، يرزح تحت ثقلٍ مبهظٍ من الكثافة السكانية العالية الضعيفة التعليم والمحدودة القدرات، بالإضافة إلى التردي في شتى المرافق والبنية التحتية والعشوائية الضاربة في كل شيء تقريباً، وعلى ذلك فلا يصلح بديلاً لعراق صدام الذي كان، البلد العفي الثري بعنفوان نظامه الفتي وعنفه اللامحدود في أوائل الحرب مع إيران. في المقابل، فإن تركيا، البلد الأنجح اقتصادياً والأكفأ عسكرياً لديها الكثير لتقدمه، مبدئياً لتماسها الحدودي مع إيران والعراق وسوريا، أي البلدان الساخنة، لاسيما وأن حضورها على الأرض، خاصةً في سوريا عن طريق احتضانها لفريقٍ من المعارضة واستخبارياً، يمكنها من لعب دور فعالٍ في التأثير على مجريات الأحداث وتحجيم النفوذ والوجود الإيراني بأذرعه، كحزب الله. على ضوء ذلك نستطيع أن نقرر أن السعودية وإن دعمت السيسي فلن تخوض معاركه ولن تتبنى عداواته، ولا بالضرورة مساعيه لتكريس نفوذه في ليبيا؛ ولما كانت السعودية الطرف الأقوى بفعل ثقلها المالي، فإن السيسي يتعرض بالتأكيد للضغط لتسوية خلافاته مع تركيا أو تحييدها على الأقل، ويلحق بذلك ملف المصالحة أو إعادة التأهيل للإخوان.
من ناحيةٍ أخرى، وعلى الصعيد الداخلي، تبدو أزمة النظام بعيدةً تماماً عن الحل. لقد وصل السيسي إلى السلطة مدعوماً من تحالف قوىً شتى، بل ومتضاربة في بعض الأحيان، وقد حمَّلته من الطموحات المستحيلة فوق ما يحتمل، لذا فليس من عجبٍ أن تلك الشعبية الجارفة التي بلغت أوجها عشية انتخابه آخذةٌ في التآكل مع ضعف، إن لم يكن غياب الإنجازات الحقيقية والواقعية على الأرض، اللهم إذا استثنينا الإنجاز السلبي في تجنب مصير العراق وسوريا؛ حتى ركلة الشعبية التي تلقاها عقب الضربة الجوية فلا أحسبها ستطول، وإنما ستطويها الأحداث اليومية والأزمات الحالية والمقبلة.
إلا أن المشكلة الأهم تكمن في كون أزمته أعمق من ذلك، فقد جاء الرجل إلى السلطة مدعــوماً من قوى الدولة العميقة لإعادة بنائها وترميم ما تصدع، ولما كانت تلك الدولة بالتحديد هي المشكلة وسبب قيام الثورة فمن البديهي أنها لا حل لديها، ولعل ذلك خير تفسير لما تعانيه من غموض ٍ في تصوراتها عما حدث وعن طبيعة الحراك الثوري بقواه ودوافعه، حتى وصلنا إلى تلك السمة الأهم، حيث أن هياكل الدولة الأمنية وأدوات عنفها في هذه المرحلة انساقت وراء دفعها الذاتي ما بين الانجراف الجبري وراء شهوة انتقامٍ عارمة لدى أجهزة الأمن الداخلي والتعامل مع الدولة واستثماراتها كأسلاب حرب من قبل القوات المسلحة.
ربما بين دوائر النظام هناك من يدرك أن ما حدث لم يكن مؤامرة، وأن ثمة مشكلةً ما في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية أدت إلى ما نحن فيه، إلا أنه لا يملك رؤيةً أو حلولاً، أولاً لأنه فقير الخيال.
وثانياً لأنه لما كان نظاماً غير ثوري بل معاديا للثورة فهو ليس على استعدادٍ لدفع ثمن تغييرٍ حقيقي وجذري. وفي خضم كل هذا وبين تلك التصورات ترى النظام ينسرب في الانحيازات الاقتصادية والاجتماعية نفسها ويبحث عن هويةٍ وبوصلة تهديه وتكسبه طابعاً، بعد أن تاه طيلة ما يزيد عن الثلاثة عقود، فلا يعلم هل ينفخ في القومية المصرية و«مصر أولاً» أم يضرب على وتر العروبة والأشقاء العرب الذين لم ينسونا ويعني بذلك دول الخليج الثرية، لتأتي صيغته صورةً باهتة ورثة من عروبية الستينيات أم يجمع بينهما بصيغة مبتكرة؟
ليس لدى النظام الكثير ليقدمه، فالقفز للأمام بمشروعاتٍ عملاقة لن يحل الأزمة الآنية الطاحنة، وأموال الخليج في ظل انخفاض أسعار النفط لن تسعفه طويلاً، وليس لدي شك في أن التصالح مع الإخوان مسألة وقتٍ، لأن النظام ليس لديه ذلك النفس الطويل ليحاربهم، كما أن علاقته بهم طيلة عقودٍ عادت عليه بالمصلحة في ضبط الشارع والتنفيس عن الضغط المتزايد بطرقٍ غير ثورية بعيداً عن سماء النظام واستخدام خطاب الدين نفسه في مواجهة تيارات أكثر تشدداً، ناهيك عن شبكة الخدمات الاجتماعية التي شملت قطاعاتٍ واسعة أهملتها الدولة وتنصلت من أي مسؤوليةٍ تجاهها، وهي في مجملها أدوارٌ لن يستطيع السلفيون الاضطلاع بها لتشرذمهم التنظيمي واختلاف الشرائح الاجتماعية التي يخاطبونها بصفةٍ عامة.
للأسف وبكل ألم، أرى أداء نظام السيسي السياسي يحاكي إعلان، (أو أوبريت كما يحلو لهم أن يعمدوه) «مصر قريبة»، فهو كالتاجر المفلس الذي يفتش في دفاتره القديمة، فيحاول إعادة تسويق مصر كما هي، ولمن، لعرب الخليج تحديداً متصوراً أن الإخراج والأضواء سيجعلانها أكثر جاذبية بعاطليها ومتسكعيها، كأننا نرسخ الصورة الاستشراقية للشرق كبازار غرائبي كبير، ولعل أدق تشبيهٍ سمعته هو استدعاء صورة عجوزٍ متهدلة كانت يوماً ما ذات جمالٍ غابر وتحاول يائسةً إصلاح ما أفسده الدهر، باللجوء إلى المساحيق والأصباغ، وعوضاً عن رؤيةٍ ومشروعٍ طموحين يوظفان طاقة المصريين ويحدثان تغييراً جذرياً معتمداً على إعادة التوزيع والإنتاج، ها هو يستمر في التسول من الخليج الذي لم يعد يكترث به في ظل بروز ما هو أهم منه… يا للبؤس.

٭ كاتب مصري

د. يحيى مصطفى كامل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    تصالح الاخوان مع السيسي يعتبر انتحارا للاخوان
    فالعسكر خسروا كل من أيدهم بانقلابهم الدموي بيوم 3 7 2013
    أما الاخوان فقد كسبوا ما خسره العسكر من جماهير ضحك عليها

    العسكر يفهمون بالتدمير ولكنهم لا يفهمون بالسياسة والاقتصاد

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول USA:

    نشكرك د/ يحيى تحليل صاءب وراءع

  3. يقول أحمد - مصر:

    الدكتور يحيى شكرا
    أنت فى مقالاتك الأسبوعية تكشف عن المآسى والجراح التى نعيشها فى هذه الإيام….والعديد من القراء ( وأنا واحد منهم ) تخفف بها لوعتهم وآلامهم .
    مصر الآن أصبحت بلد العجائب ..والأحداث متسارعة ..
    وإذا عرف السبب ..بطل العجب
    لانستعجب من عشرات الأمثلة فى سلوك عبد الفتاح السيسى منذ بداية إنقلابه !
    ومن أفكاره الفذة فى القضاء على البطالة ..بتشغيل الشباب على سيارات الخضار …الخ
    ولم يكذب المثل الذى يقول..أن ” الرسالة تفهم من عنوانها ” ….فمنذ رأيت السيسى يذهب إلى أحد البنوك ومعه الأمن وكاميرات التليفزيون…وحاملا حقيبة بها ما يوازى نصف راتبه الشهرى…لكى يودعه فى حساب ( صندوق تحيا مصر ) …! عرفت وقتها أنه قد حل علينا رجل من زحل !
    وكانت عبارة عن حركة تمثيلية..كأن كل موظفى الدولة يتقاضون راتبهم نقديا
    ولايعرف أن التحويلات البنكية أصبحت فى متناول الشخص العادى يستطع القيام بها من منزله دون أن يحمل أو يلمس أية نقود !
    أما عن أوبريت ( مصر قريبة )…والموجه لتشجيع السياحة الخليجية..
    فتعجب …أو لا..حينما لانرى أى سيدة أو فتاة .. مغطاة الرأس ..ولو حتى من الكومبارس أو السائرات ( بالصدفة ) بالشارع ! !
    هل هذه هى مصر ؟

إشترك في قائمتنا البريدية