تُحكم العولمة قبضتها على الدولة الوطنية، وتنفذُ إلى شرايين الحياة المادية والاجتماعية، وتفرضُ الاملاءات الضريبية بين فترة وأخرى، وتُقصي الإنتاج المحلي وتُضعفُه، من خلال إغراق السوق الوطنية بالمنتوج الأجنبي.
وبالتالي سياسة العولمة هي التي تُملي قواعد الحياة الاجتماعية الجديدة بشكلٍ ناعم يمر عبر البرلمانات ومؤسسات الدولة، ويوحي بمبدأ سلطة الدولة الوطنية.
وهكذا تتغلبُ الشركات الكبرى على الحدود، وتبتلعُ المنافسة المحلية بفتحها لأسواقٍ جديدة يزداد من خلالها حجم أرباحها بنسب خيالية. ويكون لمثل هذه الشركات الربحية في سوق العولمة دور رئيسي في تشكيل الاقتصاد، وفي تغيير بنية المجتمع وتعاقداته في عملية وئْدٍ واضحة للاقتصاد الوطني ولاستقلالية القرار السياسي، وتلك سياسة «الإجبار» المتصلة بالعولمة.
فسياسة العولمة لا تستهدفُ إزالة القيود الاقتصادية فقط، وإنما تستهدف أيضا إزالة قيود الدولة الوطنية، فهي تُمارس تجريد سياسة الدولة الوطنية من قوتها، وعندها «تذوب تحت شمس الصحراء الجديدة للعولمة» بجزالة تعبير أولريش بك.
وفي الأثناء ترتفع الأرباح وأمكنة العمل تضيع، وفرص العمل تُقتلُ كل يوم، سواء في المنطقة العربية أو حتى في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية حيث يزداد عدد الفقراء والعاطلين والمشردين في كل أنحاء العالم، لأن النمو الاقتصادي لم يزد سوى في ثراء الأثرياء، وهم قلة يسيطرون على أكثر من 90 في المئة من الثروة، ولا أمل يُرجى لبعض الوظائف أو مناصب العمل في ثروة الأثرياء المضاعفة بفعل أرباح الشركات القياسية كل سنة.
وهذه المعادلة الجديدة للسوق الدولية، تتهرب فيها الشركات العابرة للحدود من ضرائب الدولة الوطنية، في حين يُثقَلُ كاهل المؤسسات الصغرى والمتوسطة بالضرائب، وهي التي تُوفر أكبر قسم من فرص العمل.
وكأننا بالدولة الوطنية تدفعُ باتجاه دمار اجتماعي حقيقي، عندما تضيقُ الخناق على مثل هذه الشركات متوسطة الربحية، التي توفر مواطن شغل وتجعلها تنزف تحت وطأة التعسف الضريبي، ما يدفع بعضها في النهاية إلى الإفلاس أو الخروج نهائيا من ساحة المنافسة غير العادلة، بفعل بيروقراطية الضرائب التي تغيبُ عنها المصلحة الوطنية وضرورة تدعيم العدالة الاجتماعية والحفاظ على السلم الأهلي.
تأتي الشركات العابرة للحدود، تأخذ كل شيء، تُحقق أرباحا خيالية ولا تدفع الضرائب، وزيادة على ذلك تُربك الاقتصاد الوطني وتتركه مختلا، وتضر بالمؤسسات الصغرى والمتوسطة.
ثم يأتي بعد ذلك البنك الدولي والمؤسسات المانحة لإغراق الدولة الوطنية بالديون، ثم إعادة الجدولة في حالة العجز عن الدفع، وهكذا تُذبح الدولة الوطنية من الوريد من دون محاكمة عادلة، وإنها لنادرة أن يأتي من يتحدث بعد ذلك عن دولة الرعاية الاجتماعية والديمقراطية الفاعلة، فمن يدافع عن الرأسمالية لا يمكن أن يكون مؤيدا للديمقراطية التشاركية، ذاك أمر مستحيل، فالجذور التاريخية للنيوليبرالية إنما تزيدنا تأكيدا على أن مثل هذا المذهب السائد اليوم ما هو إلا الصورة المعاصرة للصراع المحلي بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة، ولصراع الشمال والجنوب.
وفي مثل هذا العالم الذي يجثم فوقه اللون الرمادي تسببُ الرأسمالية البطالة وتخدم الليبرالية الجديدة اقتصاد السوق والمنافع الربحية للأثرياء وتضر بالدولة الاجتماعية والديمقراطية.
وهي سياقات جعلت الحكومات لا تهتم بالفقراء والمعدمين، بل تُركز اهتمامها على الشركات التجارية التي تتهرب ضريبيا، وغالبا ما تطلب دعم الدولة في جميع النواحي لتوسيع سوقها الحرة، وهي في كل ذلك لا تتحمل عبء أي التزامات تجاه شعوبها. وهكذا تكافح القلة الغنية من أجل تطويق الحقوق السياسية والمدنية للأكثرية.
ومن الممكن في أفقٍ مفهومي من هذا القبيل أن يُعاد النظر في أيديولوجيا الكونية الاجبارية، وسيادة السوق العالمية شعار الليبرالية الجديدة، خاصة مع ارتفاع منسوب التناقض في النظام العالمي الجديد القائم على العولمة واقتصاد السوق، الذي يصنع ثروات هائلة ويتسبب في الفقر الهائل أيضا وهي سياقات غالبا غير مرغوب فيها.
كاتب تونسي
لطفي العبيدي