ثمة حالة وسيطة بين الأدب والنظرية، وهنا اضطر إلى الفصل بين الكلمتين بمقصدية واعية تبعاً لوجود قدر كبير من التعسف في جعل هاتين الكلمتين متلازمتين، وأعني «نظرية الأدب»، فالنظرية تحيل في تكوينها إلى معالجات طارئة على الوعي الإنساني حيث يذكر قاموس Critical Theory أن مفهوم «النظرية» قد تشكل حديثاً، وتحديداً في خمسينيات القرن العشرين على يد بعض المفكرين والفلاسفة الإنكليز والفرنسيين، ومنهم إيريس مردوك وتوم نيرن، وألتوسير.. بين عامي 1950-1960. وعلى ما يبدو فإن «النظرية» ارتبطت في معظم الأحيان بالماركسية والتحليل النفسي والمدرسة البنيوية (Macey 379) مع ما تنطوي عليه تلك الاتجاهات من توجهات لتأطير الكتابة في سياقات محددة.
في حين أن الأدب يمثل مدارات لامتناهية من التصورات التي تعود في أصولها إلى نصوص بالغة القدم، وتحديداً بطابعها الديني والطقسي، غير أن الكتابة بمعناها الاصطلاحي أو « الأدب» يتصل باستعمال اللغة التي تبدو معياراً صلداً لتحديد المفهوم، ولكن ليس كل ما يترجم، ويُمثّل باللغة يصلح لأن يكون أدباً. يذهب تيري إيغلتون – بهدف نقد المفهوم لاحقاً – إلى ذلك الاشتراط الذي وضعه جاكبسون بأن الأدب «عنف منظم يرتكب بحق الكلام الاعتيادي» (إيغلتون 9)، هذا التوجه التمهيدي يقودنا إلى الإشكالية التي نتوخى التطرق لها، وتتحدد بتلك العلائق غير المستقرة بين المصطلحين، ونعني الأدب والنظرية، ولاسيما أن هنالك الكثير من الدراسات التي حاولت أن تقدم نظرية للأدب، أو نظرية الأدب من خمسينيات القرن العشرين، غير أن زمننا المعاصر يشهد ارتباكاً فيما يتعلق بهذا المسعى وتحديداً في سياقات ما بعد الحداثة.
ما من شك بأن المحاولات التي تذهب إلى جعل الأدب مؤطراً في نظرية، يأتي معظمها من قبل إكراهات خارجية تتوسل إحالة الأدب بوصفه تصوراً أو جهازاً من المفاهيم والأفكار والطرائق والأساليب الموجهة في سياقات معينة، وإذا كان تيري إيغلتون في كتابه الذائع الصيت «نظرية الأدب» ينتقد تلك التصورات التي ساقها الشكلانيون الروس للأدب بأن جعلوه عملية تغريب وانحراف للغة عن وضعها الاعتيادي، ما ينفي عنها صفة الذرائعية، ومع ذلك فإن أي عبارة إعلانية، أو جملة يمكن أن تتحول إلى أدب، إذا ما قرأت بناء على حالة تثمين معينة، ولهذا يصرّ الناقد الماركسي على أن الأدب يجب أن يتسق وسياق ما، بل أن يحتمل مرجعيات، فالأدب ليس لغة تتكلم عن ذاتها.
إن البحث في ثنائية الداخلي والخارجي والمرجعيات، بات أقرب إلى حلقة فارغة من النقاش التي لا يمكن أن يفضي إلى نتيجة، فمعظم المنظورات التي توجهت للأدب مارست حالة من الإقصاء بطريقة تبادلية، بل باتت أشبه بلعبة «الكراسي»، فالنظرية ما فتئت تقتات على الأدب كي تعيد تشكيله في إطار مفاهيمي تبعاً لذلك الإكراه الإنساني وحبه للإحكام على كل ما هو حوله، ومع أن الأدب إنتاج إنساني حر، غير أن الإنسان غالباً ما سعى إلى تذليله، وإخضاعه لتلك الإجراءات التي تستهدف تقنينه وتصنيفه، بل ممارسة المزيد من التعسف في مقاربة وقائعه، ودلالاته ضمن تصور يبدأ حينا من الداخل وفي معظم الأحيان من الخارج.
والأدب يذهب نحو تجاوز تلك الحدود، ولا سيما بعد أن استنفد الإنسان معظم طرائق التفكر والمقاربات، ولعل هذا الانهدام المعرفي والإجرائي لقيمة اللغة، بوصفها حاملة للفكر، أمسى موضع تساؤل نتيجة التحولات التي أفضت بالبشرية إلى مزيد من التقارب، نتيجة عملقة التواصل الرقمي، ووسائل الاتصال، علاوة على تلك الانزياحات البشرية المستمرة، والنزاعات والحروب العقائدية والاقتصادية، والأهم من ذلك بروز قيمة الصورة والنصوص المتفاعلة، وتلاشي الحدود بين المنتج والقارئ والمؤول، كل ذلك دفع الأدب إلى أن يتحول إلى معطى «مجاني وعبثي»، فالأدب بات غير قابل للخضوع لتلك الأطر والتعريفات التي تمارس إكراهاً غير مبرر من أجل رفض المعنى أو قبوله، إذ لم يعد الأدب قراءة وبحثاً في الأسئلة المصيرية لمعنى الإنسان في عالم عصي على التحليل، وهنا لا أريد أن أتبنى تصورات مدرسة فرانكفورت وأعلامها، بمقدار ما أجد أن معنى النظرية بات ملتبساً، كون الأدب لم يعد تلك الثنائية القائمة على الداخل والخارج، أو الواقع واللغة، ولاسيما أن الواقع بات حائراً وعصياً على التحديد مع انتفاء ذلك النقاء الذي لم يعد سمة مميزة لمعظم الثقافات البشرية، بل إن البقاء ما فتئ يتحول إلى ترف بلاغي، فالهجنة تجتاح كل شيء، والواقع أضحى واقعاً افتراضياً، والحرب باتت الكترونية، والطائرة بلا طيار تقتل من دون أدنى اختلاج لمشاعر القاتل نظراً لغياب الإنسان، والدين لم يعد رسالة محبة وتسامح، والإمبراطوريات باتت غير محصنة، ومن هنا فقد بدت السرديات أقرب إلى منحى الارتباك في سبيل التعبير عن مقولات عظمى أو حاسمة.
ما من شك أن سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي، مثّل عملية لنفي الحدود التي تهاوت، غير أنه يعني في جزء منه انتفاء ذلك التمايز الطبقي، أو ذلك التمايز الأيديولوجي، بل إلى ما هو أعقد من ذلك، ونعني التمايز التكنولوجي، بالتجاور مع اجتياح غامر لقيم الرأسمالية التي تطلبت خطاباً دينياً مناوئاً، فالتقنية أحالت الشعوب إلى متماثلات، ولكن في المظهر، غير أنها في الحقيقة باتت أكثر تباعداً، فالتواصل المستمر أفضى إلى المزيد من سوء الفهم، والأنكى من ذلك أنه زالت هنالك شعوب تنتظر حريتها في قاعات الانتظار، وبمرور الزمن فقدت تلك الشعوب المرجعيات الثورية أو الرومانسية للتحرر، وكانت تعمل كخزان للطاقة والقوة، أو حتى للحلم، هذا البعد قاد إلى المزيد من الاختلالات، وخروج الأمور عن نصابها، وهنا يحضر الأدب الذي يبدو عصياً على ملاحقة تلك الإفرازات المستمرة، ما دفعه إلى أن يتحول إلى قيم طارئة مستهلكة لا تصمد لتحيل الأدب برمته إلى نص استهلاكي، أو ثرثرة مجانية على تخوم الأنا، فالرواية العربية الحديثة، على الرغم من توفر كم جيد منها، غير أنها باتت متمحورة في الأنا، أو في الذات الضيقة، وارتباكها أمام رجعية الفكر أما تقدمية الآلة والرقمية، كما هامشية المسألة. فالثقافة العربية تتقدم تقنياً على مستوى الاستعمال، ولكنها تذهب إلى المزيد من الرجعية على مستوى الأفكار. فإطلالة على الأعمال الأدبية الرائجة تكشف لنا هشاشة الموضوعات المنطوية عليها، وهذا يعني أن مفهوم النظرية بات بلا مبرر، كون القضية بذاتها لم تعد ترقى إلى مستوى المعالجة العميقة. ثمة إشارة لامعة لقيمة الأدب وعملية تعريفه في سياق نقد إيغلتون لطروحات الشكلانيين، فمصطلح الأدب قد يعمل مثل كلمة weed أي العشب الضار الذي لا يريده الجنائني، ولكن إذا قرأنا هذا التوجه معكوساً، فقد يتحول الأدب إلى ذلك الشيء المقدر والمثمن من قبل البعض، فالعشب والأدب أضحيا وظيفيين، وليسا كيانين، وبغض النظر عن تلك المناقشات المطولة لقيمة الأدب، ووظيفته، إذ أن الهدف المنشود يتمثل بالتساؤل عما لحق بالأدب من عطب حيث تحول إلى شيء غير قابل للتحديد الاصطلاحي في حدود النظرية، خاصة في ظل تلك الانهدامات لمعنى القيم الموضوعية، أو الجمالية على حد سواء.
إن المتأمل في الروايات المعروضة في بعض المحلات التجارية المعاصرة، خاصة تلك التي تضع الكتاب في الحيز ذاتهالذي توضع فيه الأسطوانات المدمجة، والألعاب الإلكترونية والميداليات الملونة، وأجهزة الحاسوب والأكواب الملونة، وشاشات التلفاز… يشي بأن الأدب لم يعد حالة متميزة، بل أمسى نموذجا استهلاكياً، وسلعة تبدو وهمية، ومع أن هنالك عناوين كثيرة تطالعنا لبعض الروائيين المرموقين، ولكن هنالك أيضاً عددا هائلا من العناوين والروايات التي تتحدث عن مشروب ما، أو عن رواية تناقش قصة خادمة، أو قصة حب، أو يوميات فتاة في مدينة ما، وغير ذلك من الكتب التي يدهشني عدد طبعاتها، على الرغم من أن القراءة في هذه الأعمال غالبا ما يكون مخيباً للآمال، بل إنها تدفع إلى مزيد من التساؤل عن مدى قدرتنا على خلق نظرية للأدب، تبعاً لما يمكن أن نجده من فراغات حين نبحث عن أيديولوجيا أو مقاربة لمناقشة هذا الشكل أو النوع الجديد من الأدب الذي بات نمطاً من الاستهلاك لكتب مطبوعة بعناية، تمارس إغواءها عبر عدد الطبعات والغلاف المشغول بعناية وفكر مختصي التسويق، غير أن هذه الأعمال حقيقة لا تقدم أثراً، ولا تخلق قيمة، أضف إلى ما سبق تلك السيولة الكتابية التي أضحت نصوصاً لا متناهية من الثرثرة حول اللاموضوع، لأن الموضوع لا يكاد يتبلور حين ينتهي، أو يتحلل.
إن حدود النظريات في وعيها بالأيديولوجيا والشكل، وتلك المقاربات التي تتوخى بعدا تأويلياً أو صورة لحالة المبدع أو المتلقي لم يعد سائغاً، نظرا لغياب الموقف، فالأدب أصبح مقدراً ومثمنا لدى شعوب لم يعد يشغلها سوى الدين بوصفه قيمة هوياتية، أو حلماً ماضوياً، أو هوية تتشكل في عالم هجين وفارغ، أو ربما ممتلكات مادية تحتاج يومياً إلى عملية تحديث. وبهذا أضحت الثرثرة حول يوميات فتاة أو خادمة غالباً ما ينظر لها بوصفها قيمة تفوق أي شيء آخر، وذلك – فقط- لكونها لاقت تقديراً من قبل مجاميع من القراء المعاد تشكيل وعيهم في ضوء أفق ما بعد الحداثة التي نزعت مراكز كل ما يحيط بنا.
* كاتب فلسطيني ـ الأردن
رامي أبو شهاب*
هذا يعني أن الأدب أصبح جزءا من منظومة التخلف التي تحكم مجتمعاتنا و لكن هل هناك غياب حقيقي للأدب الذي يستحق ذلك الوصف أم هو مجرد تهميش للأديب الحق وللأعمال التي يمكن أن تستنبط منها النظرية أو تكون تطبيقا لها. المفكر الاسلامي الوسطي في عالمنا ما يزال يخسر لصالح وعاظ التلفاز و دعاة آخر موضة و مؤلف أدب الطفل لصالح من لا يخرج عن المألوف و الرغبة الجامحة عند المجتمع العربي للسيطرة و القاء الدروس و العبر عند الطفل و الفنان المبدع لصالح المهرج و راقصات هز الوسط فلماذا نتصور أن الأدب وحده سينجو ؟