النمسا وانتخاباتها التاريخية

«يمكن أن نكون مختلفين ونتصرف باحترام تجاه بعضنا البعض (..) علينا الآن الاهتمام بالنمسا بكل تنوعها».. بهذه الكلمات تحدث فان دير بيلين الذي انتخب أمس الأول رئيسا جديدا للبلاد بنسبة 50.3 % أمام مرشح حزب «الحرية» اليميني المتطرف نوربرت هوفر. لم يكن هذا الفوز سهلا لمرشح الخضر، الجامعي ذي الميولات اليسارية، خاصة وقد رجحت الدورة الأولى الشهر الماضي كفة غريمه الذي كان سيشكل فوزه منعرجا كبيرا في المشهد السياسي للقارة الأوروبية بأكملها.
لم يكن الاهتمام الأوروبي الكبير بهذه الانتخابات مجرد صدفة ففوز شخصية معادية للأجانب والهجرة والمسلمين مثل هوفر كان سيمثل دفعة قوية لأشباهه في أوروبا لاسيما جماعة «الجبهة الوطنية» في فرنسا و»رابطة الشمال» في إيطاليا لكن ذلك لم يحصل. مع ذلك فالحملة الانتخابية الرئاسية والنتائج المتقاربة تمثل «استثمارا للمستقبل» وفق تعبير هوفر الذي يوصف من قبل خصومه بـ «الغوغائي الشعبوي» الذي ما زال يتطلع للانتخابات البرلمانية المقبلة في 2018 عساه يظفر بها. البعض بدأ من الآن في القول إن «تفجيرا آخر ومزيدا من اللاجئين ونفوز في الانتخابات المقبلة»(!!) كما صرح أحد أنصار هوفر لصحيفة «لوموند» الفرنسية.
انتخابات النمسا مثلت «بروفة» على غاية من الأهمية للأوروبيين، فــ «الحالة النمساوية تمثل التقلبات التي تغير التوازن الأوروبي» على حد تعبير جون سيفيليا المختص في النمسا ورئيس التحرير المساعد في «لوفيغارو» الفرنسية. هذه الانتخابات بعثت برسالة إلى الجميع مفادها أن نسبة لا بأس بها من الأوروبيين ما زالوا يكابدون لمنع وصول أصحاب فكر الكراهية والتمييز إلى السلطة فقد أقر 48% من الذين صوتوا لفان دير بيلين (75 عاما) أنهم لم يفعلوا ذلك إلا لقطع الطريق أمام نوربرت هوفر (45 عاما) وأفكاره اليمينية المتطرفة. حصل ذلك أيضا قبل أشهر قليلة حين استنفر الفرنسيون في الجولة الثانية من الانتخابات الجهوية بعد أن ظنت «الجبهة الوطنية» وزعيمتها مارين لوبان أنها قاب قوسين أو أدنى من الفوز. حين جرب النمساويون حكم المحافظين اليميني على المستوى الفيدرالي بين 2000 و2006 اضطر الأوروبيون إلى فرض عقوبات على فيانا لكنها سرعان ما رفعت بعد ما اتضح أن النمسا ظلت كما هي، وبأنه من الصعب تغيير وجهة بلد كامل نحو اليمين المتشدد رغم وجود أوساط معينة تدعم ذلك.
كان لافتا معرفة الأوساط التي وقفت مع كلا المرشحين، فبيلين فاز في المدن الكبرى وفي الأوساط النسائية ولدى حاملي الشهادات في حين فاز هوفر في الأرياف وبين الرجال والأقل شهادات تعليمية فقد استطاع مثلا الحصول على 86% من أصوات العمال. هذه الصورة اعتبرت تعبيرا عن استقطاب حاد في البلد ذي 8.6 مليون نسمة تستدعي من الرئيس الجديد عملا مضنيا للحد من آثاره السلبية. لهذا قال إنه سيسعى للحصول على ثقة الذين صوتوا لمنافسه لأن «الحلول الجيدة نجدها مع بعض» مؤكدا أن «كثيرين تحدثوا عن خطوط تقسم هذا البلد بين أعلى وأسفل، بين شيب وشباب.. ولكن بإمكاننا القول إننا نمثل نفس الشيء، وإننا نصفان كلاهما مهم للآخر». كلام تصالحي جميل ستضعه عديد الأحداث على المحك، خاصة وأن الرئيس الجديد يتعامل مع اليمين المتشدد الأقوى في أوروبا وينتظر أن يدخل معه في صراعات عديدة في ملفات هامة مثل الهجرة والاتحاد الأوروبي والنظام السياسي في البلاد وغيرها، رغم أن المستشار (الرئيس) في النظام السياسي النمساوي لا يتدخل في التسيير اليومي للبلاد مع أنه يمتلك صلاحيات هامة مثل إقالة الحكومة.
انتخابات النمسا لم تشكل رجة كبرى لمجرد أن مرشح اليمين المتطرف كاد أن يظفر بها وإنما أيضا لأن الحزبين الأبرزين في البلاد، الاشتراكي والمحافظ، اللذين يتوليان الحكم منذ 1945 وكثيرا ما تقاسماه في حكومات مشتركة طوال أربعين عاما تقريبا منيا بهزيمة تاريخية ما يشير إلى تهاوي نظام وبزوغ آخر. إذن النمسا ولكل هذه الاعتبارات تبدو جديرة بالرصد من قبل كل جوارها الأوروبي فهي تبدو حاليا كأول بلد تمتحن فيه توازناته السياسية بكاملها بفعل الرياح الحارة التي لفحت القارة والآتية في جزء هام منها على الأقل من الشرق الأوسط المشتعل.
لن تكون النمسا في الأشهر المقبلة محط جيرانها الأوروبيين فقط بل محط أنظار الكثيرين خارج «القارة العجوز» خاصة وأن أي استمرار لتنامي الإرهاب الذي يتدثر زورا وبهتانا باسم الإسلام لن يزيد المتطرفين في النمسا وجيرانها سوى قوة على قوة لنخلص في النهاية إلى أن المتطرفين يخدمون بعضهم بعضا باستمرار، على حساب كل القيم الدينية والانسانية الرائعة.

٭ كاتب وإعلامي تونسي

النمسا وانتخاباتها التاريخية

محمد كريشان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مؤشر خطير هذا الذي جرى بالنمسا
    وأكاد أجزم بأن السبب هو بالبطالة التي تجاوزت 10%
    فكلنا زادت البطالة زادت الكراهية ضد الأجانب والعكس صحيح ومجرب
    ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول محمد سلامه المانيا:

      اخي الكروي

      اعتقد بل اجزم ان الموضوع ليس له علاقه بالبطاله وانما هي ثقافة وتربيه بالاصل
      انت لن تكره العالم الاخر بمجرد انك عاطل عن العمل

      مع التحيه والتقدير

    2. يقول الكروي داود النرويج:

      حياك الله عزيزي محمد وحيا الله الجميع
      أنا لاحظت ذلك بالنرويج من خلال مراقبتي للبطالة, فالنرويجي العاطل عن العمل يحقد على الأجنبي الذي لدية عمل
      ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول سلام عادل:

    البرامج الانتخابية لالاحزاب هي مفتاح فوزها بالانتخابات في اوربا وكذلك الاحداث التي تجري فبها وكراهية الاجانب تزداد يوما بعد يوم ليس بسبب البطالة فالاجانب في المانيا مثلا لديهم المطاعم وقليل منهم من ينافس على الوظائف وكما قال احدهم من اليمين في النمسا(«تفجيرا آخر ومزيدا من اللاجئين ونفوز في الانتخابات المقبلة)

إشترك في قائمتنا البريدية