ونحن صغارٌ، كنّا نريد البَكَ أن يكون جميلاً. وأنيقاً أيضاً. كان بهاءُ الطلعة ما أمكَنَ ومعه المكواة، قَبْلَ الحسَب والنسَب، ضرورةً ينْشُدها الصِبيةُ للبَكَويّة…
أذكر يوماً، في عين إبل (من أعمال الجنوب اللبناني) تدبّرْتُ فيه أمري للمشي وراءَ أحمد بك مباشرةً، وكنتُ دون العاشرة. كنّا جَمْعاً من كبارٍ وصغارٍ متّجهين إلى منزلٍ ما. وكان البكُ يلْبَس بذلةً فستقيّة اللون، وهو ما لم يكن شائعاً لملبوس الرجال. كنتُ في حيرةٍ من أمر اللون: هل هو خاصّ بالبكوات أم أن هذا البك ناقصُ الذوق أو غريبُ الأطوار؟ وَأَمَّا ما حَسَم المسألةَ فكانت غُضوناً رأيتُها في ظهر سترة البك تأتّت، على الأغلب، من طول الجلوس في السيّارة. لم يكن لي، بالغةً غيرتي ما بلغت، أن ألحق البك بالمكواة. ولكن كان عِظَم الخطب كافياً لأباشر الخروج من دائرة السحر البكوي…
في ذلك اليوم أو في غيره، شاهدتُ آثار بثورٍ في وجه البك قد تكون نَجَمت من إصابةٍ قديمة بالجدري. كانت تلك طامّةً كبرى. وكنتُ أسمع بعض أقاربنا يصِفُه بـ»الأنْقَر» حين يخاصمه والدي. ولكنه كان يبقى أحمد بك في الصلح وفي الخصومة.
كان الصلح والخصومة خاويين تقريباً. تسوّغهما بالكأد مقارنةٌ بين البيوت أو بين الأشخاص، تنقلب نتيجتُها رأساً على عَقِبٍ تبعاً لتقلّبات الأحلاف الانتخابية. فإذا انعقد الحلف بين عائلتنا والبك أصبح بيت البك كعبةَ الجبل. وإذا استأثَرَ العائلة المقابلة لنا برضا البك وحالفَت عائلتنا خصماً لهذا الأخير، نفَضْنا الغُبارَ عن صورة «الإقطاع» وشُرورِه. هذا مع العلم أن المآخذَ التفصيلية كانت تغني عن لفظ «الإقطاع» الخطِرِ هذا…
هذا الخَواء هو ما جعل طلْعةَ البك محلَّ اهتمامٍ عندي يُسْعف في التعلّق بشخصه أو لا يسعف. وهو ما اتّخذتُه مقياساً أوّل للمفاضلة بين بكواتٍ عرفتُهم في تلك الأيام. وهو ما مثّل إلى حينٍ أيضاً حبلَ سُرّةٍ سياسيّاً بيني وبين والدي. كانت هذه الفئة من الألقاب قد انقطعت عن كلّ مؤدّى عملي منذ أفول السلطنة العثمانية.. بل قبل ذلك. وفي العهد الهاشمي الأوّل، أمكن لـ»قبضاي» بيروتي أن يحظى بلقب الباشوية – على ما شاعَ – لقاءَ وليمةِ سخية…
وأمّا والدي فكان ينتمي إلى فئة «الوجهاء». وهذه تقع في موقعٍ حائر بين الأفندي والبك. فكان يخاطبه الغرباء، في الرسائل، تارةً بهذا اللقب وتارةً بذاك. وأما في بيئته، أي في البلدة وفي الجوار، فكان «أبا أحمد» والسلام.
وهو كان يقترب من الخامسة والأربعين حين كنت أقترب من العاشرة. وكان لا يزال يجمع، في تلك السنّ، قوّة البنية إلى وَسامةٍ ملحوظة. كانت قوّة بنيته تجعله سنداً موثوقاً للغلام الهزيل الذي كنْتُه، فضلاً عن العائلة كلّها. فالشجار لم يكن مستبعداً بين الحلفين العائليين في البلدة (بالحجارة وبالعصِيّ، في الغالب). وكانت الوفرة في رأس المال العضليّ مستحسنةً في الزعيم، وإن تكن حاجته إليه رمزيّةً بحتة. فقد كان له مَن يشاجر عنه. وأمّا الوسامة فكانت علامةَ تفوّقٍ حاسمٍ على الأنداد ناهيك بالخصوم…
وما من ريب أن اقتران المكانة بالوسامة كان ينتقل إلينا، نحن الصبية، من طريق النساء. فمن تعليقاتهن المتناثرة، حين يذكرن هذا الزعيم أو ذاك، كان يتسرّب إلينا ما علينا أن نتمثّل به في شخص الزعيم: عسى أن يعجبهنّ فينا بعض ما يعجبهنّ فيه.
لا عجب، والحالة هذه، أنه كان سهلاً على عبد الناصر، حين وصلت صورُه، أن ينشئَ معنا، نحن الصِبْية، ومع بعضِ الكبار أيضاً، علاقةً مباشِرةً وأن يعفينا من الحاجة إلى البكوات من أصلهم. فتوقّفنا عن حفر صورة فيصل الأوّل على الحجارة. كان الملك قد ماتَ قبل ولادتنا. فلم يفصل بيننا وبين عبد الناصر سوى صورةٍ يتيمة مشوّشة للملك كنّا نقع عليها هنا أو هناك وسرعان ما أزاحها «المارد الأسمر».
أيّام!
أمرٌ آخر خليقٌ بالذكر هو أنه كان في متناولي، إلى البكوات الكثيري التداول، بيكان آخران، في أدنى تقدير، يسعني نعْتُهما بـ»النادرَيْن».. أوّلهما حسن بك، ابن عمّ أحمد بك. وكان يعرّج على بيتنا، في أوقات متباعدة، قادماً من قريته البعيدة، لا في سيّارة، بل على حصان! وكان يعتمر كوفية وعقالاً ويلبس لباس الخيّالة. كانت علاقته بأحمد بك متقلّبة شأن علاقة والدي بالمذكور. ولكن كان صعباً أن يكون له حظٌّ في الزعامة، إذ كان أخوه الأكبر محمّد يتقدّمه في الاستحقاق، وكان بيتهما قد طال مكوثه في الهامش. فكان محمد بك هو الذي يعتمر طربوشاً شأن والدي وبعض من عرفتهم من البكوات والأفندية… فإن آخرين منهم (متّهمين بالحداثة!) كانوا قد أصبحوا حاسرين بعد تطَرْبُش. ولكن حسن بك كان في نظري، مع ذلك، صورة البك المثلى: شباب! كوفية حريرية سكّرية اللون، قامةٌ شامخةٌ متّسقة وطلعةٌ سمراء مشرقة… وحصان. فمن أولى من هذا بالبكوية وأيّ ظلمٍ حبسه في الهوامش ومنح المتن لـ«الأنقر»؟
كان والدي خيّالاً قديماً وتاجر خيولٍ في بعض أيّامه. وحين بلغتُ سنّ الإدراك، كان لا يزال يقتني فرساً أو يشترك في ملكية فرس. فهذه الشركة كانت واردة. ولكن نادراً ما رأيته يمتطي الفرس. وحين توسّطتُ العقد الثاني من عمري، بدأتُ «ألطُش» ما يعجبني من خزانة الوالد: ربطة عنق من هنا وحذاءً من هناك، على الخصوص. وكان هو لا يردعني ولا يقول ما يفيد الرضا عن هذه الأفاعيل أيضاً. كان يدعني أفعل وكنت أتحاشى الإفراط. وفي وقتٍ ما، استوليت على شيئين كان الوالد قد أهملهما طويلاً: الكوفية الحريرية مع العقال وجزمة الخيّال! وقد رحتُ ألبسهما أحياناً من غير فرس!
وما من ريب في أن خطّتي كانت التشبّه بحسن بك. ولكن كان صاحب الكوفية والجزمة، أي الوالد، ماثلاً في صورتي المتوخّاة أيضاً. وحين ألتمس اليوم معنىً لما كنتُ أفعلُ أرجّح ان الرجلين كانا وجهين لصورة واحدة هي صورة الوالد. كان لحسن بك امتياز الفتوّة إذ كان أصغر سنّاً من والدي. وكان له امتياز التجسيد التامّ، وإن يكن عابراً، لمثال الزعامة المستقرّ في مخيّلتي… إذ لم أكن رأيته إلا فارساً في لباس الفرسان… هذا فيما كانت صورة الوالد أغْزرَ ملامحَ بكثيرٍ وأقلّ قابليةً لهذا التجريد، بطبيعة الحال. كان حسن بك وسيطاً ممتازاً، قليل الكلفة، يجنّبني مغبّة الاقتداء المباشر بالوالد… فهذا الاقتداء لم يكن مرغوباً فيه في وقتٍ كان فيه التحرّر من سطوة الوالد ومن سلطانه هو المناسب للفتى الذي كنته. يبقى، بعد هذا، بك نادرٌ آخر وملاحظاتٌ أخرى ندّخرها للعجالة المقبلة.
كاتب لبناني
أحمد بيضون