عادة ما أجدني محاصرا بالسؤال الذي يطلب مني تحديد الصفة التي يمكن أن يذيل بها اسمي في جلسة تلفزيونية، أو في حوار إذاعي، حين يسألني صحافي عن المهنة التي أحب أن يقدمني بها: أستاذ جامعي، باحث، ناقد؟ وفي بعض الندوات الأدبية، يتصرف رئيس الجلسة حسب معرفته بالمحاضر، فيقدمه على أنه مثقف أو باحث جامعي أو الأستاذ الدكتور.
كنت أجد صعوبة كبرى في تحديد الصفة الملائمة. فكنت في كل مرة، وحسب المقام أقترح ما يتناسب معه، ومع الجمهور المتحدث إليه. ويحصل الشيء نفسه في ملء استمارة التحكيم، حيث نجد أحيانا خانة تستدعي تحديد الاختصاص العام، والاختصاص الدقيق. كل هذه الأسئلة، سواء اتصلت بالاختصاص، أو الصفة، تندرج في ما أسميه «الهوية الأكاديمية» في علاقتها بالأستاذ الجامعي العربي داخل كليات الآداب بصفة عامة، وداخل شعب اللغة العربية وآدابها، بصفة خاصة.
لا يمكن أن تتحدد الهوية الأكاديمية إلا بالاختصاص العلمي الدقيق المشتغل به، أو نوعية البحث المُمارَس. وإذا كانت صفة «أستاذ جامعي» مشتركة بين كل من يعمل في التعليم العالي، ولا يمكن من خلالها تمييز أستاذ في كلية العلوم عن آخر في كلية الحقوق، كانت «أستاذ باحث» تحمل الصفة المشتركة نفسها. وتبعا لذلك، يكون تدقيق الهوية بسؤال آخر: أستاذ جامعي، أو باحث في ماذا؟ وحين يتم تحديد «الأدب»، يُطلب التدقيق أكثر بالسؤال عن الموضوع المشتغل به. ويكون الجواب: أدب قديم، رواية، نقد أدبي…
نلاحظ من خلال كل هذه المحاولات لتدقيق «الهوية الأكاديمية» داخل أقسام اللغة العربية أننا أمام التباس بيِّن. فهل الأجوبة المقدمة، تتصل باختصاصات؟ أم بمواد؟ أم موضوعات؟ وهل هذه «الاختصاصات» ترتبط بمادة التدريس؟ أم بموضوع البحث المشتغل به؟ أم بـ»اختصاص» له علاقة بالأطروحة التي أعدها الأستاذ؟ على اعتبار أن الأستاذ يمكنه أن يدرس أي مادة، حتى لو كانت بعيدة عن «اختصاصه» لضرورة من الضرورات.
لو انطلقنا من موضوع الأطروحة المُعدَّة، على اعتبار أنها تحدد «الاهتمام» الخاص لدى «الباحث» لا يمكننا إلا أن نجد عدم التحديد نفسه. إن الشهادة المحصل عليها لا تقدم لنا الاختصاص الدقيق. وما تقدمه لنا يظل يتغير باستمرار. في فترات سابقة كانت هناك تمييزات مثل: أدب قديم، أدب حديث، نقد، بلاغة… وصارت الآن، مع النظام الجديد، وهي تتصل ببنية التكوين، تحمل صيغة عامة: «دكتوراه في الآداب». أما إذا اعتبرنا المواد المدرسة، فإن «الهوية الأكاديمية» ستظل أكثر تعميما والتباسا، لأنها متحولة، وحتى في حال ثبات تدريس مادة معينة: نقد قديم، فإن الالتباس يظل قائما.
يظهر لنا هذا الالتباس أكثر في الندوات التي تقام داخل أقسام اللغة العربية، أو المؤتمرات الأدبية بصفة عامة، حيث نجد الصفة التي يشترك فيها كل المحاضرين هي: «ناقد أدبي»، وكل ما ينجز من دراسات حول الأدب يندرج في نطاق «النقد الأدبي» حتى إن كان صاحبه يقول إنه يشتغل بـ»النقد الثقافي»؟ وعندما تساءلت في أحد المؤتمرات عن معنى أن تكون «ناقدا أدبيا»؟ كان السؤال مستفزا كما لاحظ أحد الحضور، ويتطلب تدقيقا وتوضيحا.
تغييب الهوية الأكاديمية بين المشتغلين بالأدب في الوطن العربي، لا يعني سوى تغييب تدقيق «الفعل الأكاديمي» المشتغل به وتعميمه بالصورة التي لا تجعل التمييز ممكنا بين هؤلاء المشتغلين. تتصل «الهوية» بـ»فاعل محدد»، يضطلع بـ»فعل محدد». وبذلك يحصل التمايز، وتتعدد الأفعال والهويات. أما اعتبارنا كل المشتغلين بالأدب مشتركي الهوية الأكاديمية فمعنى ذلك ضياع الدقة، وسيادة التعميم. وعندما لا تتحدد هويتي بدقة، فليس لذلك من معنى غير عدم الوعي بـ»الفعل الأكاديمي» الذي أقوم به، من جهة، وعدم اختلافي عن بقية زملائي من جهة ثانية.
تتصل الهوية الأكاديمية بـ»الاختصاص العلمي» المشتغل به، والمشروع الذي يسعى صاحب الاختصاص إلى البحث فيه. وبذلك يكتسب الباحث صفته «العلمية»، وإلا فلا معنى لـصيغة « الأستاذ الباحث». يمكننا أن نتحدث عن الأستاذ الذي يدرس إحدى المواد الموكلة إليه، وحتى هذا الأستاذ حين يدرس مواده المختلفة بدون «منهج» محدد فمعنى ذلك أنه بلا «اختصاص»، حتى إن زعم أنه مختص في الأدب الأندلسي، أو النقد الحديث، إنه يدرس مواده بجمع المعلومات وتلفيقها وتقديمها على أنها أساس عمله الوظيفي، الأكاديمي، وتقديم المعلومات وتنسيقها، أو حتى تجاوز ذلك إلى تأويلها عن طريق الاختلاف مع من اشتغل بها قبله، لا يعني أنه أستاذ باحث. إن الأستاذ الباحث له اختصاص ومنهج ورؤية معرفية للأدب، وهو لا يهتم بالمعلومات بقدر انشغاله بنقلها أو تحويلها إلى معرفة. وبذلك يمكنه أن يسهم في تطوير المعرفة الأدبية وجعل الفكر الأدبي جزءا من الإنسانيات لأنه يتفاعل معها، ويسهم في تطوير الفكر والمعرفة، ولا يتأتى ذلك إلا بانتهاج أساليب البحث العلمي.
ما نزال في شعب اللغة العربية وآدابها لا نؤمن بـ»البحث العلمي» في دراسة الأدب. ولا نتحدث عن «علوم أدبية». عندما نفعل ذلك، نكون فعلا أمام إمكانية تحديد الهوية الأكاديمية بدقة، وبدون التباس.
كاتب مغربي
سعيد يقطين
ناسف لعدم النشر بسبب طول التعليق