الهوية الوطنية بين مرآتي التاريخ والسياسة

حجم الخط
1

هل حقا بُنيت دولة الوطنية في الجزائر على وهم هوية لاكتها ألسن طوال عقود ما بعد الاستقلال؟ وهل أخطأنا في رؤية شكلنا وأصلنا في مرآة التاريخ طوال هاته الفترة، حتى نعود لنصحح تلكم الأخطاء في مرآة السياسة؟ وأين تصلح الرؤية ويستقيم التصحيح، في مرآة السياسة أم التاريخ؟ هي أسئلة تفرض نفسها من واقع تصرفات سلطة صادرت كل شيء في الجزائر.
واستطاعت في كل مرة أن توهم حركات الرفض لمشروعها كلما تصدقت عليهم بجزء مطلبي، بأنها ماضية إلى التصحيح والإصلاح. من ذلك مواصلتها التصرف في مواريث الأمة المادية منها والمعنوية، وفق حساباتها الضيقة، وخدمة لمشروع يراد له أن يكتسي بعدا كونيا، وفق كونيات الخطاب الفكري والسياسي، الذي يطبع الراهن العالمي أو العولمي، وليس ذاك تداعيا من هاته السلطة ولا انسجاما مع شرطيات العصر، بل استجداء للغير واستجلابا منه للشرعية، في ظل استحالة اكتساب الشرعية داخل المجتمع، لكونها (أي السلطة) وليدة الخطيئة الكبرى في تاريخ الأمة، من يوم سطت جماعة العسكر على الحكم بالقوة مغتصبة دولة أمام الأشهاد.
فها هي ذي (السلطة) تعود مجددا في سعيها لخلط أوراق السياسة بين فرقاء المعنى والقضايا التي تتجاوز نطاقات السياسة، وتتعلق بالتاريخ وضخامة أسئلته ومصائره، تعلن عن (منحة) أخرى لأصحاب المطلب الثقافي الأمازيغي، بتكريس رأسة السنة الأمازيغية يوم عيد، وعطلة مدفوعة الأجر، في وقت لا يزال هذا اليوم وهذا التقويم محل تكذيب ونقاش ضار بين الباحثين في التاريخ والأنثربولوجيا.
هل تملأ السياسة فراغات التاريخ وعيا وفعالية؟ الأمم التي صنعت التاريخ كانت أسمى بكثير من أن تستمد قوتها وكينونتها من السياسة بطبعيها الظرفي والتكتيكي، لذا كانت أسمى من أن تتكسر في أتون السياسة، مهما بلغت أزمات الأخيرة من حدة وقوة. السياسة في الجزائر التي تولدت عن وعي متصل ومتواصل مذ استقام حضور الوطنية في التاريخ بداية القرن الماضي، أُريد لها أن تدوس منطق الأشياء وتتمرد على العقل، لتغدو هي أُمَّ الوعي وصانعته، من خلال تصرف بعض ناشطيها والمتنفعين بها على مستوى الأجهزة الرسمية، وهذا مذ صار الحسم الأمني أداة للتحكم في الجزائري قبل وبعد استقلال البلاد. لقد هيمنت السياسة بمصالحها الذاتية والآنية على سير تطور الذات الوطنية، وعوّمت النقاشات المتعلقة بالهوية، ما شكّل حالة احتراب أيديولوجي، شللي، جهوي وعنصري، تتجاوز في حدتها ما عُرف من تجارب عنفية في بعض البلاد، مع فرق بسيط كون أداة العنف ظلت حكرا على السلطة في الجزائر. لكن سمة العنف، سواء أكان رمزيا أو خطابيا ظلت وستستمر في تصاعد مطرد، طالما بقيت الهوية وشأن تصورها وتطورها بيد السلطة، تتعامل معها وفق تكتيك السياسي بعيدا، بل مصادما لمنطق التاريخ، وغايتها من ذلك الظهور بمظهر الحافظ والضامن للوحدة الوطنية.
وإذا كان تصرف السلطة حيال مشاكل الهوية وصراع تركيبها المتسم بالتكتيك السياسي ذي البعد المصلحي الظرفي يعد خطيئة في حق الأمة، وباطلا في شكله ومضمونه، فكيف يمكن وصف الاستجابة الساذجة له من قبل ناشطي المطلب الأمازيغي؟
فالمشكلة قد لا تغدو في تصرف السلطة، كونها هي بحد ذاتها مشكلة الأمة والداء الذي ينخرها مذ سطت على جهاز الحكم فيها، بل ستغدو في حركات المطالب الثقافية المنبعثة من سحيق أعماق التاريخ، قبل التشكل قطريا عموما، والامازيغية على وجه أخص، التي قد تتوهم أن السلطة التي فجّرت أزمات كبرى في كيان الأمة ،وعلى رأسها أزمة الهوية حين فرضت نموذجها ورفضت ما كان يطرح من نماذج معارضة، قد تابت عن خطاياها تلك، وهي الآن تصحح مسارات الماضي، وتتطلع إلى آفاق جديدة قائمة على الحقائق، بدل الترهات والاستعمال السياسوي لرمزيات الأمة وأشيائها المستشكلة في التاريخ.
من الخطأ ألا تعي حركات المطلب الثقافي، مهما كان توجهها، أن مبادرات سلطة ولدت في لحظة القلق الوطني، لا تتصل بشيء مع حقائق أو منطق التاريخ، لأن التاريخ أعمق من أن تستوعبه شلة مارقة بالعبث السياسي عن كل شروط وآليات التأسيس الحق التي يفترضها ويفرضها التاريخ. وبهذا المعنى نيل الاعتراف من شلة وليس من مجتمع من خلال منابر تناظرية واقتناع وإقناع متبادل، يكون الفضاء الثقافي الحر فيه سيدا بعيدا عن كل استئصال وأصولية محتربة، أوثق مصداقية من اعتراف سلطوي يعلم الجميع أنه لا يزيد على أن يكون استجابة تكتيكية لمطلب لم تتم الإجابة عن طبيعة سؤاله، أو لم تُترك له الفرصة للإجابة بالشكل الذي يتجاوز نطاق الجهوية أو الضائقة الإثنية ليغدو شأنا عاما ووطنيا.
ورؤية الارتياح يسود معسكر المطلب الأمازيغي لتداعي السلطة لمطلبهم، وحسبان ذلك انتصارا عليها وليس انتصارا على المشكلة التي قامت عليها أسس الهوية، بسبب هاته السلطة ذاتها، من خلال ترسيم للغة الامازيغية في الدستور، وترسيم رأس السنة الامازيغية يوم عيد وطني وعطلة مدفوعة الأجر، ليغدو إشكالا في حد ذاته.
فالهوية لا تتطور بالسياسة «السياسوية» مطلقا، والتاريخ أوضح ذلك في تجارب الأمم والدول التي ظهرت بظهور ما يسمى بالدولة الوطنية الحديثة، حيث لا تزال إشكالات ما يعرف بالتنوع الجزئي يحدث ارتدادته حتى في ظل الوفرة المادية والتقسيم العادل للثروة الوطنية، التي خلقها النظام الفيدرالي، والمثل الصيفي في برشلونة هنا خير ما يمكن البرهنة عليه، فالهوية هي شكل من أشكال التفاعل الذاتي للمجتمع مع قواسم تكوينه، وهذا يتجاوز نطاقات التقرير السلطوي والاحتراب السياسي، وعليه فالذين يطالبون بالاعتراف السلطوي من ناشطي المطلب الأمازيغي والذين يرفضونه، إنما يقعون خارج دائرة التاريخ ويسقطون في مطب السياسة وإسقاطاتها المجتزئة لأشياء الأمة، المعنوية منها والمادية، في ما تدعي أنه البرنامج الوطني، خدمة لمصالح من هم في حوزتها ومتاعا لمن يتصلون بها بشكل أو بآخر.
في الأخير هل هي انتصارات حقيقية لدعاة المطلب الأمازيغي، تتكرس وفق معارك طبيعية معرفية تعيد قراءة الماضي، وفق قانون التعايش المتعدد داخل نسق الدولة الوطنية الحديثة؟ أم هي انتصارات وهمية تصورها لهم سلطة قاطعة مع المعرفة، بوصف هاته الأخيرة أداة الإقناع والاقتناع بالأصول البديلة لنموذج الدولة المفروض، الخاص بالهوية الوطنية والسبيل لانتشار الوعي بالتعايش في دائرة الاختلاف والتنوع؟ سؤال يحيلنا إلى طرح موقف رافضي المطلب الأمازيغي وعلة رفضهم، التي تتأسس عن قناعة، سواء أكانت خاطئة أم صحيحة من أن أصل المشكلة في تاريخها بالمفهوم الزمني ولا تاريخانيته بالموقف المبدئي، ليست سوى اختراع لدوائر الدس الاستعماري، التي رأت في منطقة القبائل وخصائصها الثقافية والطبيعية الجبلية أرضا خصبة لخلق التمرد على الجماعة الوطنية، على مستوى معنى الوجود النسقي لواحد، والواحدية هنا ليست تتعلق قط بالنموذج الأحادي، بل التنوع داخل الحديقة النسقية للأمة التي أزهرت عبر قرون متتالية.
ويستدل هؤلاء الرافضون للمطلب الأمازيغي، بمواقف دعاته، ومن معهم بعض العرب الفرانكوفونيين، ممن يخافون على حضورهم في سوق الكتابة الفرانكفونية، من خلال التضحية بلغتهم الأم، الرافضة لذكرى وحضور الجنس العربي في قصة التشكل الوطني في التاريخ والجغرافيا، بداعي أن ذلك كان غزوا عدوانيا، في إدانة لموقف الأسلاف ممن قبلوا الإسلام واللغة العربية. خطاب المطلب الأمازيغي يعدو حد كونه مطلبيا ليبلغ مستوى الإقصاء من التاريخ والجغرافيا، وهي إشكالات نشأت من كون الحوار الوطني الذي لم تُكتب له رؤية النور يوما على مستوى السياسة، بسبب وصاية السلطة الشاملة على قضايا الأمة، بما في ذلك التاريخ، والغريب أن دعاة رفض المطلب الامازيغي من بعض البحاثة الأمازيغ في حد ذاتهم، كعثمان سعدي وأحمد بن نعمان، بخوض مناظرة تلفزيونية بخصوص حقيقة وأبعاد هذا التيار الذي بزغ إلى الوجود نهاية أربعينيات القرن الماضي، مع دعاته وشعاراتهم التي رفعوها منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، لم تجد لها استجابة من قادة الحركة البربرية (الأمازيغية) ما أدى إلى الاسترابة والتوجس من هذا التيار، خصوصا أنه بقي حبيس الرقعة القبائلية، بدون ان يمتد إلى ربوع الوطن، رغم الحديث عن بربرية كل الأراضي الجزائرية والمغربية، بالمفهوم العرقي وليس اللغويفقط.
إذن هو رهان خاسر على عطايا سلطة سياسية غير معرفية، غير مسؤولة وغير واعية بثقل التاريخ في حياة الأمم والشعوب، وتطور مسارها التعايشي وفق رمزيات متجانسة، فالرهان على حسم غير شرعي لسلطة غير شرعية سيفاقم من إشكالات أسئلة التاريخ الكبرى المؤجلة والمؤدلجة، ولا يحلها مطلقا فهي شكل من أشكال هزيمة المثقف أمام السياسي في معركة الخيال الرامز للوجود الوطني.
كاتب صحافي جزائري

الهوية الوطنية بين مرآتي التاريخ والسياسة

بشير عمري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ناصح قومه:

    بيض الله وجهك يوم تسود وجوه عبيد المحتل.

إشترك في قائمتنا البريدية