حين فقدت السيدة «ديانا سنتانا» ابنها الوحيد «سكوت» ذا السبعة عشر عاما في حادث سيارة، رفضت تماما أن تقدم جسده للدود، ولم يخطر ببالها أن تحنطه مثلا وتبقيه أمامها، قررت هي وزوجها «ريتش» أن يمنحا أعضاء ابنهما الوحيد للمرضى الذين ينتظرون أعضاء من واهبين وحياتهم على المحك.
أنقذ جسد «سكوت» ستة وسبعين شخصا بأعضائه، ومنحهم حياة جديدة. في تحقيق فريد من نوعه تقف «ديانا» و«ريتش» مع «رود غرامسون» الشخص الذي تلقّى قلب «سكوت» في المكان نفسه الذي لقي فيه ابنهما حتفه. وهذه من النوادر التي يلتقي فيها المتلقي بأهل المانح، إذ يُفضّل في اتفاقيات منح الأعضاء إبقاء سرية الأسماء ومنع كشف هوية المتلقين. تبدو التجربة قمة في الإنسانية حين نعرف أن الشخص الذي انتهت أيامه لم تنته عطاءاته حتى وهو في عالم الأموات.
حكاية «ديانا» ربما فريدة من نوعها، ولكنّها بشكل ما حدثت في بقاع أخرى من العالم، أمهات فعلن ذلك مع أعضاء أبنائهن، وآخرون تركوا وصايا قانونية بمنح أعضائهم. منذ سنوات، دخل شخص إلى أحد مستشفيات بيروت، وأغلق باب حمام على نفسه ثم سمعت طلقة نارية دوّت في المستشفى، كانت المصيبة أكبر من أن تستوعب بشقيها المفجع والمفرح في الوقت نفسه، إذ تماما كما في أفلام هوليوود المتقنة يترك الرّجل رسالة بمنح أعضائه لمن بحاجة إليها، وفي ما بعد عُرف أنه لم يتحمّل إفلاسه في ظروف ضاغطة عليه جعلته يتخذذ قرارا صارما تجاه حياته، لكن بذرته الإنسانية الجيدة وأعماقه الطيبة كانت أقوى منه حين منح بأعضائه حياة جديدة لعديد من الأشخاص. مئات القصص تبدو في غرابتها مثل الخيال، لكنّها حدثت في واقعنا هذا، ويكفي أن نصغي لوشوشات الحياة لنسمع الكثير. أفلام كثيرة جمعت قصاصات هذا الواقع وقدمت قصصا جميلة للمشاهد، نذكر بعضها حتما لأننا تأثرنا به كثيرا، مثل فيلم «سفن باوندس» من بطولة ويل سميث.
سنة 2013 صدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون كتاب مدهش يحمل عنوان «القلب البديل»، يحكي فيه صاحبه الشاعر العراقي محمود جاسم النّجار تجربته بقلب متضرر، ثم انتظاره لقلب بديل، إلى أن خضع لعملية زرع قلب من مانح لا يعرفه، يحدث كل هذا في منفاه الهولندي، لكنّه يقلب حياته رأسا على عقب، ويمنحه رغبة في ترك بصمة واضحة في مسار حياته. وهو اليوم صاحب مؤسسة أوطان التي تنشط ثقافيا هناك.
تجربة النّجار كان يجب أن يعطيها الإعلام العربي بعدا خاصا، لكن ككل تجاربنا المثيرة والمتميزة في العالم العربي نفضل أن نضع المتميزين بتجاربهم على الهامش.
الجميل في شخصية النجّار أنه مصر على جعل مؤسسته نبراسا مضيئا للثقافة العربية، إذ أنه بعد عودته للحياة بقلب بديل سافر واحتك بكتاب ومثقفين وعرّف بنفسه وبتجربته، وكيفما كانت ردة فعل «قلوبنا شبه الميتة» فالرجل مستمر في مشروعه، بقلب – لا أعتقد أنّه عربي – لأنه جعل الرّجل ينهض من لا شيء ويصنع شيئا ذا قيمة مقاوما كل أنواع الإحباط التي صنعت عقبات وعثرات أمامه.
زراعة الأعضاء التي نجهل قيمتها في مزرعة الموت التي نعيش فيها وتمجيد الحياة الأخرى قبل حياتنا الحالية يراها البعض تجارة رابحة، بحيث تفقد بعدها الإنساني تماما. في ثلاثة بلدان كبيرة يرتع فيها الفقر من الإنسان نفسه هي الهند والفلبين ومصر، يبيع الشخص كليته ليعيش، وقد يبيع جزءا من كبده، وقد يسرق جثة ويبيعها من أجل بيع أعضائها وقد يقتل ليفعل ذلك…
في برنامج دام ساعة تعرض قناة «إي آر تي» فضاعات سوق الأعضاء التي تنتشر في هذه البلدان وفي بلدان أخرى، ثم تنقلنا إلى الصين، وتحديدا إلى مستشفى معين في مدينة يعرفها كثير من العرب الأثرياء، التي يقصدونها لزرع أعضاء أهمها الكلى والرئتان والكبد وقرنية العين. تتم عمليات الزرع من خلال أعضاء تؤخذ من السجناء المحكومين بالإعدام. وتصدمنا الإحصائيات التي تقول إن حوالي ثلاثة آلاف سجين يعدمون سنويا في الصين، وإن ألف عضو تتم زراعتها سنويا من هؤلاء السجناء…
هل العدد صحيح؟
كانت الصدمة أقوى عليّ من أن أركز وأنا أتابع التحقيق المتلفز، لكنني حتما تأثرت حين رأيت قبرا لشخص سوداني دخل المستشفى للعلاج وخرج جثة هامدة بدون أعضاء معينة، قال الرجلان الصينيان اللذان صلّيا على جثمانه قبل دفنه أنهما يعرفان أنه مسلم، وأنه مثل غيره سيختفي إلى الأبد من دون أن يعرف أهله أين ذهب.
في الحروب وفي البلدان المهتزّة أمنيا يخطف المجانين والأطفال ويقتلون وتباع أعضاؤهم، وتتم عمليات زرعها بطرق سرية في مستشفيات طالها الإهمال بسبب الأنظمة المهترئة التي تصب تركيزها على أشياء ثانوية غير حماية الإنسان. تقارير خطيرة رفعتها منظمات لحقوق الإنسان لكن من يسمع صوت الضمير حين تشتغل آلات الموت والجشع؟
القوانين التي تنظم عمليات وهب الأعضاء وزرعها في بلدان متطورة، لا نجدها في بلدان أخرى لم تنفع فيها حتى الفتوى الدينية التي يعتبرها البعض أقوى تأثيرا من أي قانون. في برنامج تلفزيوني على إحدى الفضائيات العربية تحكي سيدة عن تجربتها في مستشفى في دولة مجاورة لدولتها، فقد دخلت المستشفى بسبب تسمم عادي وهي في رحلة سياحية، ثم قرر الطبيب استئصال زائدتها الدودية على أساس أنها ملتهبة، والغريب أنها لم تنتبه إلى أن ما استئصل منها كان كليتها، ولم تستطع أن تفعل شيئا لا بالقانون ولا خارج القانون وهي مجرد سائحة عابرة لبلد «شقيق».
من قمّة الإنسانية إلى قمة الإجرام في حق الإنسان، نجد أنفسنا حيارى أمام شذوذ السلوك الإنساني في غياب القانون. لكن العبرة تقول إن إنقاذ شخص على شفير الموت لا يكون له معنى إن تمّ بطرق لاأخلاقية أو إجرامية. ترى ما الذي يشعر به شخص وهو يشتري عضوا من شخص آخر ذلّه العوز ثم يزرعه في جسده ليعيش؟
صحيح أن البعض يشترون كل شيء بأموالهم، لكن هؤلاء مستعدون أيضا لبيع أي شيء مقابل سعادتهم.
الحكمة الصينية القائلة: «بدل أن تعطي الفقير سمكة أعطه صنّارة صيد» لم تأت جزافا، من لديه رغبة في مساعدة فقير فليس حتما بشراء أحد أعضائه، وإنما بانقاذه الأبدي من الفقر، وليس من واجبي ككاتبة أن أكتب موعظة للمشتري والبائع سواء، ولكني أشجع على المضي في طريق هبة الأعضاء بعد الوفاة، واستحضر قول أسماء لابنها عبد الله بن الزبير: «يا بني لا يضرُّ الشاة سلخها بعد ذبحها، فامض على بصيرتك، واستعن بالله». وإنّي لأرى أسماء مثل ديانا لو أنها عاشت في زمننا، لأنها باكرا أدركت أن الأجساد حين تغادرها الأرواح إلى ربها لن تتألم بالتنكيل بها.
شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
شكرا جزيلا لك يا ابنتي على هذا المقال الرائع. وفي حفظ الله ورعايته دوما.
صوتك صارخا في سوق النخاسات بائعي الضميروالقيم الانسانية لعل بعضه يجد نداء الصدى, في سوق التجارة الذي لا يعرف القيم الانسانية مطلقا, ولعل البعض يشذ عند صحوة الضمير.عصرنا هذا يسمح ببيع كل شيء ذو قيمة بالفلوس. (والمناصب التي تسمح له بالبيع كل شيء لأجل خلوده ) فبها يمكن شراء النفوس وبقية أعضاء الاجساد. كل انسان خُلِقَ من العدم ويرجع اليه يوما, ولكنه يريد البقاء في الحياة بكل ثمن يستطع تقديمه بالشراء وآخر بالبيع وآخر بالسرقة لأجل الإنتفاع التجاري الخسيس لسقوط قيمه الانسانية. عالما أضحى متوحشا بسقوط القيم جوهريا. فحتى المنادين بالقيم من مواقع سلطتهم الحاكمة فهم تجار بها بشكل آخر تحت المنظار الدقيق جداً ؛ ولكل قاعدة شواذ.سمعت يوما أن في دولة اوروبية تختفي أعضاء البشر من موتى ليس لديهم أهل يتابعون أو حتى من يدخل مستشفى الحوادث تؤخذ أعضائهم وتحفظ وتقدم للبيع بأثمان باهضة. وقسم يتبرعون بوعي اهداء اجسادهم لعون الاخرين وهؤلاء أشخاص المثال؛ لكن التجار يربحون منهم. فالتجارة عالم بلا حدود في عالما الموجود. والصراخ فيه يمكان يقف على جرف بحر ويصرخ عاليا أمام هدير الامواج. ونحن نعيشها كل يوم بأشكال عديدة متطورة تُبهرنا , بعضها ينفعنا , بعضها يصدمنا, فالانسان يتاجر بالانسان في هذا الزمان لأأجل الربح بسقوط قيم الانسان. والقاعدة الشاذة يُقاس على ما بعدها وهو السائد. تحيتي اليك بمدادك الرائع.
شكرا للسيدة المحترمة
مقال يصدر فقط من قلب انساني يسعى ما استطاع لتخفيف آهات الانسان
يا رب السموات كم أنت رائعة