الوثائقي المصري «يللا أندرغراوند»: طموح المحاولة وتقليدية الشكل

القاهرة ــ «القدس العربي»: سيظل الفن دوماً في أغلبه مُعبّراً عن القوى الاجتماعية والسياسية التي يُنتَج في ظلها، وشكلا خاصا من أشكال هذا الفن يبدو ضد هذه القوى، ويستمد قيمته من مدى انتقاده ومواجهته لها. ويأتي الفيلم الوثائقي يللا أندرغراوند، الذي جاء عرضه الأول في القاهرة من خلال العروض الخاصة لسينما (زاوية) ليؤكد هذه الرؤية من خلال استعراض حياة فناني الفرق الغنائية المستقلة في عدة دول عربية.. مصر، الأردن، فلسطين ولبنان. كنموذج حي لما يحياه الوطن الموسوم بكونه عربياً.
ولتصبح هذه الفئة من الفنانين معبّراً قوياً عن العنصر الرافض ــ من خلال الأغنيات وكلماتها وموسيقاها ــ عن السائد في المجتمع، بل والمُنتقد لسلطته السياسية مباشرة. وكأنهم بديل عن مجتمع عانى وثار في النهاية، كما حدث في الموجه الأولى من ثورات «الربيع العربي». بدأ كاتب السيناريو ومخرج الفيلم فريد إسلام تصوير الفيلم عام 2009، وانتهى منه عام 2013، أي منذ إرهاصات الثورة وحتى قيامها، وبالتالي حاول تقديم صورة دقيقة للقمع السياسي في هذه الدول التي تمثل حال المجتمعات العربية. الفيلم من إنتاج عام 2015، ونال العديد من الجوائز في بعض المهرجانات السينمائية الدولية.

محنة الفرق المستقلة

تبدو البداية وكأنها انتقاء لحالة مواجهة مع الجميع، فوجود فرقة موسيقية مستقلة، تنتهج الشكل الغربي للموسيقى، حتى لو حاولت أن تمزج هذا الشكل ببعض الروح الشرقي، أو التوسل بالتراث الشعبي، فالأمر يبدو اغترابياً على مستوى الجمهور العريض، اللهم إلا بعض الجمهور المحدود الذي يتواصل مع هذا الشكل الموسيقي ــ الحديث هنا قبل ثورات البيع العربي، الذي أتاح انتشار مثل هذه الفرق وأنشطتها التي باتت مألوفة إلى حدٍ كبير. فالفنان بدوره يبدأ من محنة ومواجهة مستمرة مع ما يحيطه، في ما يقدمه ويحاول زحزحته من تراث موسيقي، إضافة إلى التجريب والتجديد، وكذلك السلطة الاجتماعية والسياسية في المقام الأول التي ينتقدها في قسوة من خلال كلمات الأغنيات وإيقاعاتها.

التوثيق

حاول الفيلم من خلال التعامل مع هذه الفرق وأصحابها أن يوثق للحالة السياسية للبلاد التي ينتمون إليها، وصولاً إلى لحظة الثورة وما تلاها من تغيرات اجتماعية، وما كان يحلم به هؤلاء الذين تنفسوا مع الثورة ووجدوا بالفعل، ثم أصبح الخوف والقلق هو المصير في اللحظة الراهنة ــ إن كان القلق والخوف هو المناخ المسيطر وقت انتهاء العمل بالفيلم عام 2013، فالرعب هو الإحساس القائم الآن، خاصة في الحالة المصرية كنموذج مثالي للمناخ القاتم ــ تجربة هؤلاء لافتة في كونها لا تنفصل عن الواقع السياسي، فمعظم الفنانين شارك في الثورة، وأنتج أعماله في ظلها، ومنهم مَن يرى أن عليه أن يمسك سلاحاً الآن ويترك آلته الموسيقية التي حتماً سيعود إليها!

مواجهات الدولة الرشيدة

لم يختر فنانو الفرق المستقلة المواجهة فقط، بل تم فرضها عليهم، ففي مصر على سبيل المثال تم تلفيق التُهم، كالذي حدث في منتصف التسعينيات من القرن الفائت، ووصم البعض منهم وموسيقاهم بأنهم ينتمون لمُسمى وهمي وجد صدىً في الشارع المصري بأنهم (عَبَدَة الشيطان)، وبالتالي قائمة الصفات التي تلعب على وتر التدين المزعوم والمجاني لدى الشعب المصري، إذ أصبح يُنظر إليهم بوصفهم فئة من الكُفّار الجدد.
كحال الدولة دوماً، أن تضع الفئة المغضوب عليها ــ كانت الأغنيات الانتقادية لسياسات الدولة وقتها هي ما يميز هذه الفرق في أغلبها ــ في مواجهة الفئة الاجتماعية الأكبر، التي تستمد معظم معلوماتها، بل وينتظم إيقاع حياتها وفق ما تراه في التلفزيون وتسمعه في خطب صلاة الأحد والجمعة من كل أسبوع.
النماذج المُنتقاة من الفنانين

تنوعت النماذج الفنية، سواء كانت فرقا جماعية تضم العديد من الفنانين من عدة بلدان عربية، أو فنانا بمفرده يحاول أن يعبّر عما يدور حوله من مشكلات ومواقف سياسية متأزمة، ويعكس كل منهما الحال الاجتماعي المضطرب دوماً، فنرى العديد من الفنانين المصريين منهم.. دنيا مسعود، مي وليد، كريم عادل، محمد صافي، وعازف الغيتار أوسو لطفي. ومن لبنان كل من مارك قدسي، مادلين الحاج، وزيد حمدان الذي اعتقل في منتصف عام 2011 بتهمة سب الرئيس اللبناني ميشيل سليمان بعد تقديمه لأغنية (الجنرال سليمان)، التي أصبح يتغنى بها في الغرب، ووجد الصدى الطيب بما انه أصبح من المناضلين الكبار! كذلك من فلسطين، مثل شادي زقطان، وعامر شوملي، وأخيراً محمود ردايدة من الأردن. لم يتعرض الفيلم لفناني المغرب العربي، وبالطبع كان سيضنيه البحث إن ولى وجهه شطر بلاد الخليج.

التغريب واستعادة روح ثورة الطلبة

إن كانت أعمال هذه الفرق قد لاقت نجاحاً بعد الربيع العربي ــ نجاحاً نسبياً ــ إلا أنها تبدو في ذاتها بعيدة عن الناس، حتى لو استند البعض وتوسل بالتراث، فسيظل يدور في فلك جمهور محدود، بالطبع لهم الحق في فرض أسلوبهم وأنغامهم وكلماتهم كما يودون، ولكن الحِس التغريبي هو ما يخلق هذه الهوّة، حالة أخرى نستشعرها من أحاديثهم، حالة من التعالي على الجميع، ومن دون أن يشعروا يتجسد هذا التعالي في الذين من المفترض انهم يقدمون الفن من أجلهم! هذه المفارقة المؤرقة هي ما يكشف عنه الفيلم من دون قصد، فقد أراد أن يجعل منهم الصورة الصادقة للثورات ولو من خلال الفن، فهو الأبقى على أي حال، لكن الشعور العام بعد مشاهدة الفيلم ينفي ذلك تماماً. يبدو أننا نشاهد فرق ستينيات القرن الفائت الثورية، التي انتشرت بعد ثورة الطلبة في فرنسا عام 1968، وانتشرت وطالت العالم أجمع.
وما يؤكد ذلك ــ من وجهة نظرنا ــ هو حديث بعض الفنانين المُتقعر، مما يُذكّر بمدّعي الثقافة الذين تراهم دوماً يجلسون في مقاهي وسط المدينة، التفلسف والكلمات الرنانة والجوفاء في أغلبها هي ما يتفوهون به. عبارات قديمة عن النضال والكفاح وما شابه. من ناحية أخرى يتجسد هذا النضال في الفنان اللبناني الذي جاءت المُصادفة السعيدة وتم حبسه لبعض الوقت، بتهمة سب الرئيس فتحوّل فجأة إلى مناضل كبير يجد ضالته في الولايات المتحدة، وتصبح أغنية الرئيس المسبوب المغضوب عليها في بلاده، هي سلعته الرابحة وجواز مروره النضالي، وسبب قيمته الفنية!
لا نشكك في التجربة بكاملها، فهناك شيء من التقدير لما يقدمونه ويحاولون تقديمه، رغم ما يواجهونه من صعاب ومضايقات أن يستمروا في نهجهم، لكن التهليل لأي شيء مهما تباينت قيمته، إضافة إلى التلويح بعدد المهرجانات والجوائز ــ الغرب يستعيد ذاكرته الثورية ليس أكثر من خلال مثل هذه الأعمال ــ سيبدو قمعاً سلطوياً يمارسه الفيلم على المُشاهد، ويبدو أن الفيلم في المقام الأول يدّعي أنه ضد أي شكل من أشكال القمع. ولاّ إيه؟!

الوثائقي المصري «يللا أندرغراوند»: طموح المحاولة وتقليدية الشكل

محمد عبد الرحيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية