باريس ـ «القدس العربي: يوثّق المخرج سليم أبو جبل، ابن الجولان السوري المحتل، في فيلمه الطويل الأوّل، الأشهُرَ الأخيرة من حياة زوجيْن هما يوسف أبو العبد وشريكته آمنة، وقد تمّ توثيق حياتهما على عدّة مراحل من قبل المخرج الإسرائيلي، المؤيد للعديد من الحقوق الفلسطينية، عاموس جيتاي.
فيلم أبو جبل الحائز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان دبي السينمائي في دورته الأخيرة، حيث كانت العروض الأولى للفيلم، مكتمل في ذاته ولا يستلزم الرجوع لأفلام جيتاي، ولا إشارة فيه إليها أساساً، إلا أن موضوع «روشيما»، أبو العبد وزوجته، يصبّ في الفيلم مستكملاً، لمُشاهد أفلام جيتاي، ما صوّره الأخير في ثلاثة أفلام وثائقيّة بعنوان رئيسي هو «الوادي»، صُوّرت تباعاً في 1981 و 1991 و 2001.
في أفلام عاموس جيتاي الثلاثة شاهدنا يوسف أبو العبد ضمن يوميّات وُثّقت في الأزمنة المتباعدة الثلاثة، تصوّر الشقاء الذي يعيشه أبو العبد كساكن لبرّاكية، وهو بيت من الصفيح، لا تصله لا الماء ولا الكهرباء ولا خطوط الهاتف، ولا تعترف به بلديّة حيفا، المدينة التي تقع البرّاكية على أطرافها، يعيش متنقّلاً من عمل لآخر، يمارس أعمالا متباعدة عن بعضها بعضا هي الأخرى، من صيد السمك إلى الفلاحة إلى البناء وغيره.
نسمعه يقول في الفيلم الذي صُوّر في 1981 إن بلديّة حيفا تحاول إخلاء البيت، وهو ما يدور حوله فيلم أبو جبل الذي صُوّر بعد ما يقارب 33 عاماً، أي محاولة بلديّة الاحتلال في حيفا إخلاء البيت، وتشبّث أبو العبد به، وهو برّاكية بدائية، سقوفها، نراها في جميع الأفلام على امتدادها زمنياً، كما هي، مثبّتة بدواليب سيارات وقطع خشب وحجارة باطون. ونسمع أبو العبد يقول في الفيلم المصوّر عام 1991 إنّه يعيش هناك منذ عام 1956، ونراه في «روشيما» عام 2014 يعيش كما عاش دائماً، لا ماء ولا كهرباء، وحيداً مع زوجته بلا ابناء، حتّى أقاربه تشتّتوا بين الدول العربية وأوروبا وأمريكا، ولا جيران كذلك، فبيته يقع في واد تحوّطه الأشجار والصخور وضجيج الشاحنات والجرّافات وغبارها نهاراً، والنباح والعواء ليلاً، وذلك بعدما هجر أهالي الوادي المكانَ منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
كغيره من اللاجئين، تشرّد أبو العبد بعد عام النكبة ولجأ من قرية الطيرة إلى عدّة مناطق في فلسطين لينتهي أخيراً على أطراف مدينة حيفا في بيته في قاع وادي روشيما (كلمة آرامية تعني رأس النبع). أخيراً، تحاول بلديّة حيفا إخلاء البيت لتشقّ نفقاً يمرّ من هناك، يرفض أبو العبد ويقاوم إلى أن يعجز أمام قرارات السلطة. يوسف أبو العبد الذي شاهدناه مقاوماً الزمن والعوز في أفلام جيتاي الثلاثة، رجل صلب وطيّب، فقير مكافح بالمعنى النموذجي والمثالي للكلمة، نراه في فيلم أبو جبل وقد بلغ الثمانين عاماً، الأعوام الظاهرة قسوتها على وجهه من دون أن تحني ظهره، نراه واقفاً عند صخرة تطلّ على ما كان بيته، يبكي ويصرخ داعياً الله أن يهدّهم (الجرّافات، وسلطات الاحتلال بالمعنى الأعمّ) كما يهدمون بيته المبني من الصفيح والخشب وبعض الاسمنت.
الموضوع الواحد الذي يربط «ثلاثيّة» عاموس جيتاي بـ «روشيما» سليم أبو جبل، وهو أبو العبد وزوجته، والخاتمة التي سينتهي عليها الفيلم الأخير، سيجعل من «روشيما» رابع هذه «الثلاثيّة» وخاتمتها، رابع لا بدّ منه لمُشاهد أفلام جيتاي الثلاثة، المتسائل عن حال العائلة المعزولة والفقيرة بعد أكثر من عقد على الفيلم الثالث منها. إنّما الجديد في «روشيما» أنّه لم يكتف بتصوير يوميّات الفقر المدقع التي يعيشها أبو العبد وآمنة، إنّما نقل القلق الذي نزل على هذه الأسرة البائسة بفعل إجبارهم من قبل سلطات الاحتلال على إخلاء البيت، وإن بمقابل ماديّ رفضاه إلى أن اضطرّا للقبول به كونهما في كل الحالات سيُخليان البرّاكية التي لم يستغرق هدمها غير دقائق قليلة، فنقل الفيلم إضافة إلى الفقر والشقاء المتشبّثين بالزّوجين طوال حياتهما، الغبنَ والقهرَ اللذين نزلا عليهما في شيخوختهما.
في أفلام الـ 1981 و 1991 و 2001 و 2014 جميعها، نرى أبو العبد المصاب في رقبته من معارك عام النكبة حيث قاتل، والمعتقل بعد ذلك بعام حيث عُذّب من دون أن يشير إلى غيره من الثوّار، نراه في الأفلام الأربعة يلمّ الخشب الجاف ليتدفأ عليه، يأكل مما يزرع وما يتكرّم به الناس عليه، في «روشيما»، أو مما يجنيه، في الأفلام الأولى، حيث عمل حتى سنّ متقدّمة.
يقول في أحد أفلام جيتاي بأنّ المهاجرين الجورجيّين اليهود خطفوا الشغل من العمّال العرب كونهم أيادي عاملة رخيصة، يقول كذلك إن الاحتلال الذي طرده من بيته عام النكبة يلاحقة على هذه البرّاكية وهي كل ما يملك، لكنّنا نسمعه يقول كذلك بأنّه ما إن يخرج من بيته هذا حتى يموت بعد يوم أو اثنين. أخيراً، ينتهي الفيلم، ونقرأ إهداءً لروحيْهما، يوسف أبو العبد وزوجته آمنة.
سليم البيك