أثارت حلقة سيلفي المعنونة «زواج ليبرالي» الكثير من المواجع على خفة دم كوميدياناتها الرائعين من حيث ضغطها على جرح التناقض العميق في الصف الليبرالي العربي. كما بينت الحلقة، تنهزم ليبراليتنا العربية أمام الكثير من العوائق وتتأخر أمام الكثير من الخلافات، ولكن لا يهزمها ولا يؤخرها خلاف كما الخلاف الطائفي الذي لا يلبث أن يطفو على سطح العلاقة السمحة الرائقة فيحيلها عكراً وسواداً.
في الحلقة يتعطل زواج محبين بسبب اختلاف طائفة عائلتيهما اللتين تدعيان الليبرالية، لم يستطع الأبوان تخطي خلافهما في الرأي والذي نمّى من اختلافهما الطائفي، «فتفركشت» زواجة الإبن والبنت كما تتفكرش معظم علاقاتنا وتتبدد أواصرها بسبب هذا الاختلاف السام والذي لا يمكن أن تقف في وجهه ليبرالية شكلية لم تستقر بعد عميقاً في الضمائر العربية على أنها أسلوب حياة وقاعدة أخلاقية ومبدأ حقيقي في العيش والتعامل.
في هذه الحلقة ينصح أبو العريس إبنه نصيحة تختصر واقع الحالة الليبرالية العربية قائلاً: «أريدك أن تكون ليبرالياً من بره فقط، أما من الداخل فأنت ما أنت ليبرالي». في هذه الجملة مختصر ليس فقط لفكرتنا عن الليبرالية ولكن لطريقة عرضنا وممارستنا لها. فالفكرة العامة عن الليبرالية في الشارع العربي تنضغط في حيز المنظر، فمن يتصرف بتحرر (وليس حرية، والاثنان مختلفان بعض الشيء) هو من ينظر له على أنه ليبرالي: شكله «إفرنجي»، شربه كحول، «نساؤه» سافرات، وغالباً يكون من الطبقة الفوق متوسطة وما بعدها. كما وتشير الجملة تلك الى حالة النفاق الليبرالي المزمن الذي يعيشه الشارع العربي، حالة تصل حد مرض من أهم أعراضه تمزق نفسي داخلي وتناقض قولي وفعلي خارجيان. فالإنسان «الليبرالي» العربي غالباً ما يعيش مأزوماً بين فكرة تقديس الحرية التي هي الأساس الأول لمبدأ الليبرالية وبين عاداته وتقاليده ودينه وسمعته التي ينالها الضرب المستمر وقبوله الاجتماعي الذي يتضاءل من حوله بسبب فكره، مما يحتم عليه استخدام الكثير من («نعم ولكن»، «حرية بضوابط»، «مراعاة خصوصياتنا»، «المرأة غير») وغيرها من الجمل التي تحول ليبراليته الى حبر على ورق.
الليبرالية الحقيقية ممارسة شاقة، فكر رائع تنفيذه حارق وهو يحتم عليك قبول وجود ما تنفر منه، يلزمك بسماع ورؤية ما يثيرك، يفرض عليك إفساح المجال للفكر الذي تكره ولأسلوب العيش الذي ترفض وللمبادئ التي تتضارب تماماً ومبادئك ورؤاك.
كليبرالي، ليس دورك هو فقط احترام وجود الآخر وحرية تعبيره (وليس بالضرورة احترام آرائه) ولكنه يتحتم عليك كذلك الدفاع عن هذا الآخر، عن حقه في أن يقول ويفعل ويعيش طبقاً لما تكره وترفض، مهمة عسيرة وشاقة ومكلفة نفسياً، ولكن مردودها ليس له مثيل.
هنا تجدر الإشارة الى أنه وفي حين أن المظهر وطريقة الحياة كلها خصوصيات يحترمها الفكر الليبرالي ويحرر أصحابها تماماً في طريقة ممارستها بل ويفرض على الآخرين تأمينها لصاحبها، الا أنه وبكل تأكيد لا يفرض على الإنسان مظهراً معيناً أو طريقة معينة في الحياة. يمكنك أن تشرب الخمر وتكون ليبرالياً ويمكنك أن تحرمه على نفسك تماماً وتكون ليبرالياً، يمكنك أن تلبسي المايوه وتكوني ليبرالية ويمكنك أن تلبسي النقاب وتكوني ليبرالية، يمكنك أن تسهر كل ليلة في ملهى وتكون ليبرالياً ويمكنك أن تعتكف كل ليلة في مسجد وتكون ليبرالياً، الليبرالية ليست «قائمة» بالمسموحات والممنوعات، الليبرالية تترك للإنسان «كوده» الأخلاقي ليحدده بنفسه، كل ما تفرضه على هذا الإنسان هو الإفساح للآخر مهما كانت اختياراته في الحياة. في قوانيني الأخلاقية في بيتي مثلاً، أترك لبناتي حرية الملبس، لكنني أرفض تماماً المكياج، أتقبل علاقات أولادي وصداقاتهم المختلطة وأستقبل كل أصدقائهم من الجنسين في بيتي بكل أريحية، ولكنني لا ألمس الكحوليات. يقوم رفضي للمكياج والكحوليات على أسس أخلاقية بحتة، أسس تخصني لا غيري، أسس أربي بها أولادي لا الناس في الشارع. هذه القائمة هي قائمتي أنا، تلزمني ليبراليتي فهم أنها صحيحة لي أنا فقط، وأن مبادئي هي حق مطلق بالنسبة لي أنا فقط وليست حقاً مطلقاً بالمطلق.
إذن، ما يؤكد ليبراليتي ليس فقط حصري «لكودي» الأخلاقي في نفسي فقط، ولكن كذلك فهم حق الآخرين في ممارسة «كودهم» وفي عرض آرائهم وفي نقد ما لا يعجبهم. نحن، في عالمنا العربي الإسلامي، غير قادرين على هذه الدرجة من الصراحة والمصالحة مع النفس. ينهال علينا المجتمع بثقله فيشعر حتى عتاة ليبراليينا، الا ما ندر، بالضغط وبالحاجة للإنضمام للسرب. يتلبس الكثير منا مواقف متناقضة ما بين ليبرالية تبدو براقة على الورق ومجتمع يبدو قاتماً بعاداته وتقاليده وصرامته، فتتضارب الأفكار وتنكسر العصا التي لا تحتمل الحمل من المنتصف، ويصبح المنظر كوميدياً تماماً: «من بره ليبرالي بس من الداخل أنت ما أنت ليبرالي».
الليبرالية، بجناحها الاجتماعي خصوصاً، هي ثقل مرهق، جمر مشتعل، من يحاول المشي عليه غير واثق ولا «مستبيع» في مجتمعاتنا لا يملك سوى أن يتقافز فوقه، لا هو عابر للضفة الثانية ولا هو عائد لضفته الأولى. عدو الليبرالية الأول هو الخوف من كلام وأحكام الناس، الأهم في مجتمعاتنا، وهكذا يُخلق النفاق والعباد تساق، ويصبح «لبسك صيفي ووجهك شتوي»٭
المقولة أعلاه من مسرحية «باي باي لندن» لعميد الكوميديا العربية عبدالحسين عبدالرضا
د. ابتهال الخطيب
أختي ابتهال تطرحين اليوم نقطة في غاية الأهمية وهو ما يسمى ازدواجية الأخلاق وتناقشت مع معارفيي كثيراً في هذا الموضوع سابقاً. أولاً في المقال الأمر هنا مرتبط بالتحرر الفكري والاجتماعي (بينما العلمانية مفهوم مرتبط بالتحرر السياسي) والتعليقات برأيي أضافت جزءاً قيماُ لا يستهان به حول الموضوع. وثانيا ومع أن مجتمعنا يعاني (كما جاء في المقال) من ازدواجية أخلاقية فظيعة وعلى تناقض تام مع الدين حيث أن النفاق مرفوض تماما في الدين والإسلام دين ليبيرالي كما ذكر الأخ ابن الوليد في تعليقه, لكن الازدواجية الأخلاقية ليست فقط في مجتمعنا بل نجدها في الغرب بطابع أخر مثلاً صدعوا رؤوسنا بالقيم اللبرالية لكن عندما يصل الحد إلى إسرائيل وما تقترفه من جرائم يصبح لباس صيفي ووجه شتوي! (وكذلك في حال سوريا وكذلك حملات التشوية ضد الإسلام أو الحضارة العربية) لكن من الإنصاف أن نذكر الكثير من المفكرين والمناضلين الذين يقفون في وجه هذا النفاق والحال يختلف في الغرب ليس فقط بسبب التاريخ الاجتماعي والتقاليد المختلفة إلى حد ما ولكن أيضاً بسبب التطور والتقدم مقارنة بحالنا وخاصة العلمانية أو اللبرالية (أو التعددية) السياسية التي يحافظ عليها الغرب بقوة لإدراكه بأهميتها وحيث نحن مازلنا محرومين منها تماما. في النهاية لب الموضوع اليوم كيف نستطيع أن نتحرر فكرياُ واجتماعيا لأنه جزء أساسي من التحرر وقيم الحرية المعاصرة والتي ليست بالضرورة تتعارض مع الإسلام ولكن لا تقف عند هذا الحد ويمكنها أن تتفاعل معه أيضاً. المرض تم تشخيصه ويتم تشخيصه كل يوم بل أيضا يدركه العامة كما المثقفين أو النخبة ولكن العلاج يسير ببطء فظيع بل وربما المرض يتفاقم أكثر وأكثر بسبب أولاً الهوة بين العامة والنخبة في المجمعات العربية والتي تعتبر عقبة في وجه الحوار الاجتماعي والتي اعتبرها أحد أسباب فشل الربيع العربي (حيث كان واضحا تقدم العامة على النخبة وهذا أمر سلبي) وثانيا الاستبداد السياسي (السرطاني في مجتمعنا) وازدواجيته الأخلاقية الفاضحة دون استثناء بينها من المحيط إلى الخليج وهنا برأيي نقطة حرجة أو موحلة والتي مازالت تستعصي على الحلول وأنا لدي أمل كبير بأن الربيع سيعود مهما طال الخريف.
الاخ أسامة كليَّة ما ذكرته امر صحيح ولكن في الغرب ينطبق الامر على السياسيين وبعض المفكرين ولكن المجتمع بصورة عامة يعيش حالة متطابقة على عكس مجتمعاتنا التي تعاني من تلك الازدواجية وحتى في الامور البسيطة واليومية في حياتنا فترى الكثير من العوائل تملك غرف وموائد الطعام ولكنهم لا يستخدمونها فالغالبية تفترش الارض وتاكل بايديها فالغالبية تمارس وتقوم بامور لا تؤمن بها وانما تماشيا مع تقاليد المجتمع ويكون ذلك على حساب انفسهم.
شكراً أخي سلام واضح تماما. لقد ذكرت أنا أيضاً بشكل واضح الاختلاف في التطور والتقدم مقارنة بمجتمعنا (الأسطر ٧-٨) لكن طبعا بشكل مختصر, لأن الحديث يطول والتعليق يجب أن لا يكون طويلاً.
لكن علينا أيضا أن لا نرى الغرب بعين واحدة فرغم التقدم الذي لا يستهان به فعلاً في الغرب والذي لا أشك فيه أنا وأعتبره مثالاً يحتذى به, لكن هناك مازالت ازدواجية أخلاقية منتشرة في الغرب فيما يخص التعامل مع الحضارات والثقافات الأخرى مثلاً. أو مازالت تسيطر وسائل إعلامية تابعة للوبي الصهيوني (ومفكرين معهم) على المجتمع وتؤثر عليه فكرياً وثقافياً واجتماعياً لخدمة الأهداف الصهيونية وهذا ليس سراُ فمن المعروف أن أكثر المناهضين لذلك هم يهود أيضاً من أمثال Fincklestein أو Noam chomsky …..
“في بيتي مثلاً، أترك لبناتي حرية الملبس، لكنني أرفض تماماً المكياج، أتقبل علاقات أولادي وصداقاتهم المختلطة وأستقبل كل أصدقائهم من الجنسين في بيتي بكل أريحية، ولكنني لا ألمس الكحوليات”
ماذا تفعل ليبراليتك عندما ياتي زوج لاحدى بناتك يشرب الخمر او زوجه لاحد ابنائك تضع المكياج
هل ستتقبل ليبراليتك هذا ام سترفضين ذلك وتصبح ليبراليتك من الخارج فقط