الوزير وأسئلة الكتابة

لفت نظري منذ أيام، ذلك الرد الغريب من وزير الثقافة الهندي، على كتاب وشعراء ومسرحيين من بلاده، رفضوا تكريما أدبيا، احتجاجا على مناخ العنف والطائفية والتعصب، الذي يمسك بخناق البلاد، ويمس المثقفين أنفسهم، وكان رد الوزير على الاحتجاج بأن قال: فليتوقفوا عن الكتابة.
هذه الجملة، أو هذا الرد الوزاري، لا يبدو محنكا، ولا حتى خيارا مقبولا من وزير يضطلع بمهام الثقافة، ومن المفترض أن يسعى للارتقاء بها، وليس أن يحمل معولا نظريا من أجل هدمها، والمبدعون في كل بلد، وكل زمان ومكان، ليسوا مكلفين على الإطلاق، بمعنى أنهم لا يتلقون رواتب عالية من أجل أن يبدعوا، ولا يصنفون أبناء مدللين، تكافئهم السلطات في أي فرصة سانحة، إلا ما ندر، لكن على الأقل، يمكنهم أن يحترقوا براحتهم، وأن يكتبوا ما يرون كتابته تنويرا أو معرفة تحتاجها مجتمعاتهم، من أجل أن تزدهر، وكان مناسبا جدا، لو وقف الوزير مخاطبا احتجاجاتهم بطريقة فيها شيء من الاحترام، ولو وعد بتقصي أسباب العنصرية والكره، والحد من استهداف المثقفين، حتى لو لم يف بوعده، وهي، أعني مسألة عدم الوفاء بالوعود، عادة متأصلة في العالم الثالث، وتبدو أشبه بالمواد الإجبارية، يهضمها كل مسؤول ارتقى منصبا.
«ليتوقفوا عن الكتابة» هذه، أعادتني مضطرا إلى سؤال الكتابة البدائي الذي كنا نسأله في الصغر، وما زال البعض يسأله في كل يوم: لماذا نكتب؟ لماذا يجلس الناس ساعات وأياما وشهورا، وربما سنوات، في أماكن معزولة، وهم يتصارعون مع أفكار تأتي ولا تأتي، ليكتبوا، ثم ليسعوا لنشر ما كتبوه، ولو على حسابهم الخاص، وبلا أي مكسب كبير، قد يأتي من وراء ذلك؟
السؤال رغم بدائيته وتكراره، ليس عبثيا، كما قد يظن البعض، وليس ساذجا بقدر ما يحتاج إلى إضاءة، سواء من الذين كتبوا ويكتبون، أو الذين قرأوا وأدمنوا حب القراءة، ولطالما خرجت الكتب الكثيرة، في الغرب، وعندنا في الوطن العربي، تحمل صفحات كثيرة، تجيب على سؤال الكتابة الأزلي، وسؤال القراءة المرادف: بمعنى، لماذا نكتب، وفي الوقت نفسه: لماذا نقرأ؟ كتب ألبرت مانغويل، الكاتب الأرجنتيني، المتعددة في هذا الشأن، أظنها قالت الكثير.
طبعا ومن منطلق شخصي، أردد دائما، حجة اكتساب المعلومات التي ربما تكون غائبة عني، ففي أي كتاب جديد تتاح لي فرصة قراءته، سواء كان أدبا أو غير أدب، من الكتب العلمية والتاريخية، كتبه موهوب محترف، أو مجرد هاو، أراد أن ينشر أفكارا ما، داعبت ذهنه، لا بد من وجود معلومات ضالة، أو مشردة في الصفحات، يمكن اصطيادها، والاستمتاع بأنها أصبحت معلومات ممتلكة، ويمكن التحدث بها أو الاستفادة منها، فمثلا، عن طريق الرواية السويدية: «عالم صوفي»، وعبر حوار الأستاذ مع الفتاة صوفي، يمكننا التعرف إلى قصة الفلسفة، التي ربما كانت لغزا عصيا قبل أن تكتب رواية تبسطها، وتمنحها بهار المتعة. يمكننا كذلك أن ننقلب سياحا نظريين، نتعرف إلى شوارع نيويورك، القديمة والحديثة، ومقاهيها، وأماكن التسلية فيها، حين نقرأ لبول أوستر، وغيره من كتاب المناخ النيويوركي، وقطعا كنت أعرف لندن جيدا، قبل أن أراها واقعيا، لأن كتابا كثيرين، خاصة كتاب الرواية البوليسية، ملأوا ذهني بتفاصيل عديدة عن تلك المدينة الكلاسيكية، الباردة نوعا ما، لكن فيها حياة أخرى، لا تخلو من الحيوية، وأظنني لن أضل كثيرا في أي بلد لاتيني، لو زرته ذات يوم، من شدة ما هضمته من كتاب أمريكا اللاتينية عن بلدانهم.
الوزير الهندي نفسه، ما كان سيشغل منصبا مزركشا، وجميلا وذا هيبة، لولا ثمة إجابة مقنعة عن سؤال الكتابة. من المؤكد أن الثقافة، وهي قائمة في معظم فقراتها على الإبداع، ومن بينه إبداع الكتابة، ما كانت ستتسع في مقعدها لذلك الوزير وغيره، أن توقف الموهوبون عن ضخ الخامات المطلوبة.
لقد وصلتنا سيرة رابندرات طاغور، ووصلتنا أشعاره، بفضل الكتابة منه أولا، وعنه ثانيا، وصلتنا سيرة غاندي، الهندي الزاهد، الذي ألغى كلاسيكية السلطة لفترة ما، في تاريخ البشرية، والكثير جدا من التوابل التي كانت ذات طعم خاص في طبق سؤال الكتابة.
أوائل تسعينيات القرن الماضي، وحين كنت أعمل مفتشا طبيا في منطقة «طوكر»، أقصى شرق السودان، وأكتب الشعر، مدفوعا بهواجس شتى، وأقرأه لمن صادقتهم من موظفي الدولة في تلك البيئة الفقيرة، البعيدة تماما عن كل ما هو مبهج، تصدى لي نقيب في الجيش كان يعمل هناك، ونتشارك مع آخرين، ليالي نقضيها نثرثر، على أضواء الفوانيس الشاحبة، سألني العسكري مباشرة عن فائدة الشعر، وإن كان قد أثر في مجتمع ما، وجعله رخيا، أو شارك في حرب مشتعلة، وساعد على النصر، وذكر أن الشعراء تحدثوا وما زالوا يكتبون عن فلسطين المحتلة، منذ زمن طويل، ومات كثيرون منهم، ولم يحدث أي تغيير. كان يتحسس سلاحه في الخصر، وكأنه يردد: هذا ما يحدث التغيير.
لا أذكر ماذا كان ردي بالضبط على سؤال الكتابة الذي وثقه الزميل الضابط بنموذج حي، هو يعرفه، وكلنا نعرفه، لكن قطعا نبهته إلى أن الكتابة، يمكن أن تصبح رصاصا للحماس الذي يعبئ أذهان الناس، وينطلق ذات يوم لا بد، وما عرفه هو شخصيا عن القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا، ما كان سيحدث لولا أن شعراء عظاما كتبوا، وباحثين دؤوبين دونوا، وفي النهاية، مصادر عديدة اتحدت، ولو تناولنا مواضيع الإبداع بهذه البساطة، لما تحركنا شبرا. حتى الأغنيات التي نرددها ونطرب لها، ما كانت ستتوفر لولا أن هناك إجابة ما لأسئلة الكتابة.
الوزير الهندي، من غير المعقول أن لا يكون ملما بأي إجابة من الإجابات المتعددة لأسئلة الكتابة، إنها في رأيي لحظة انتشاء بسلطة، لا تبقى لزمن طويل، وتبقى فقط أجوبة الكتابة، مستعدة للدفاع عنها في أي زمن.

كاتب سوداني

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أفانين كبة . مونتريال ، كندا:

    نعلم بأن السومريون في بلاد الرافدين هم اول من ابتدع الكتابة المسمارية سنة ٥٠٠٠ ق.م ، عندما احتاجوا الى وسيلة للتفاهم والتواصل مع الاخرين . فالكتابة هي لسان البشرية وحوار العقول . تُرى كيف سيكون العالم بدونها ومن سيحفظ الميراث الثقافي للشعوب .
    لا بد من ان وزير الثقافة في الهند على علم بتقرير منظمة اليونسكو بأن هنالك ٢٨٦ مليون شخص أمي في الهند أي لم يتلقوا اية تعليم ، وهي الأعلى في نسبة الأمية بين دول العالم ، لذا قبل ان يتفوه ، عليه ان يُنقي كلماته بوعي وحكمة .

إشترك في قائمتنا البريدية