جاءت نتيجة الانتخابات النـــيابية اللبـــنانية لتــؤكد المؤكد، فالوطن الناقص سيبقى مؤجلاً مهما علا صراخ فريق يعتقد أنه انتصر. الانتخابات لا تغيّر شيئاً في ظل شيوع عبارة «المكونات» اللبنانية (وهو الاسم المستحدث للطوائف)، التي تعني أن الديمقراطية لا مكان لها على الخريطة السياسية، وأن العملية الديمقراطية كالانتخابات النيابية أو الاستشارات من أجل تشكيل الحكومة، لا تقرر شيئاً، لأن اللعبة السياسية تقع في مكان آخر.
أستطيع أن أغضب مع الغاضبين من عودة بعض رموز الوصاية السورية الى الحلبة السياسية: جميل السيد وإيلي الفرزلي وعبدالرحيم مراد والى آخره… وأن أرثي مع الراثين مصير «المجتمع المدني» الذي هرعت نائبته الوحيدة إلى احتضان جميل السيد في أول جلسة للمجلس النيابي الجديد، وأن أشعر بالأسى وأنا أرى كيف تدوس الطبقة السياسية اللبنانية على دماء الشهداء والضحايا الذين سقطوا في واحدة من أكبر الجرائم السياسية المتسلسلة التي عرفها لبنان، والتي جاءت لقتل روح انتفاضة 14 آذار/مارس الاستقلالية، وأن أرثي اليسار اللبناني الذي تلاشى في غبار زمن الليبرالية الجديدة، وأن وأن وأن…
لكن المسألة ليست هنا، إنها في مكان آخر، هكذا كانت وهكذا ستكون، لأنها وليدة النظام السياسي الطائفي، الذي تحوّل اليوم إلى البنية السياسية الوحيدة، بحيث صار لبنان فيدرالية طائفية محلية صغيرة، تبدو تائهة في خضم منطقة ملتهبة بالحروب والانهيارات والمآسي.
ليست الانتخابات من قرر أن حزب الله استولى على المفاصل الكبرى في الدولة، الاستيلاء سبق الانتخابات، واقتصر دور الانتخابات على تكريس أمر واقع.
كما ان نتائج الانتخابات لم تقرر أن استيلاء حزب الله على السلطة نسبي وليس مطلقاً، فهذا نتاج التوازنات الإقليمية والدولية الهشة، التي لم تحسم بعد.
نحن أمام معادلة غامضة، النقطة الوحيدة الواضحة فيها، هي أن الجريمة استثمار ناجح، وأن «انتصار» النظام السوري وحلفائه على أشلاء المدن والبلدات السورية، وصولاً إلى خراب مخيم اليرموك، ينعكس على التركيبة اللبنانية بشكل مباشر، بحيث يزيد من منسوب هيمنة حلفاء إيران ونظام الأسد في لبنان.
نحن أمام تركيبة سياسية واضحة الغموض، لكن العنصر الثابت فيها هو أن هناك انقلاباً زاحفاً يحقق في كل يوم مكاسب إضافية، وأن الأطراف اللبنانية، أي «المكونات» أو الطوائف الأخرى، لا تمتلك رؤية أو قدرة أو نقاط إرتكاز إقليمية ودولية قادرة على منع الانقلاب، طموح هذه القوى هو المشاركة في نهب موارد الدولة والمجتمع، وتأخير مفاعيل الانقلاب في انتظار أن يحدث شيء لا يعرفون ماهيته.
مشكلة «المكونات» المعترضة على هيمنة حزب الله لا تكمن فيها فقط بل في حلفائها، هل يمكن الركون إلى قوى إقليمية تعلن حلفها مع إسرائيل؟ هل الخيانة هي طريق الاستقلال؟ وكيف يمكن التحالف مع أنظمة لعبت دوراً مركزياً في تخريب ثورة الشعب السوري وتسليمها للإسلاميين تمهيداً لضربها من قبل النظام وأسياده الروس والإيرانيين؟
المشكلة هي أن هذا الوطن الناقص سيبقى مؤجّلاً بعد مرور 28 سنة على النهاية الرسمية للحرب الأهلية اللبنانية، بحيث يمكننا الاستنتاج بأن الحرب الأهلية لم تنته، بل تحولت نظاماً سياسياً متكامل الملامح، عماده «الأقوياء» في طوائفهم، وبنيته مافيوية، ومصيره معلّق على الحروب المستعرة في المنطقة، وأفقه مغلق.
أثبتت الأعوام الماضية، من إخراج الجيش السوري إلى دحر الاحتلال الاسرائيلي، أن الطوائف أو «المكونات»، لا تستطيع ولا تريد وليس في مصلحتها بناء وطن قائم على العدالة والمساواة والديمقراطية، وأن طموحها لا يتجاوز البقاء حجارة في شطرنج اللعبة الاقليمية.
من هنا تأتي الخيبة من قوى الاعتراض، التي انتهت الى مُزاح انتخابي غير جدي، لأنها ارتضت تجاهل المعضلة الكبرى التي يواجهها الوطن الناقص، وهي معضلة بناء مشروع وطني ديمقراطي ضد الطوائف، يصد الانقلاب الزاحف، ويؤسس لرؤية جديدة، قائمة على المواطنة.
والخطأ ليس خطأ التحالف الانتخابي الفضفاض الذي أعلن إفلاس التكنوقراط النيوليبراليين وحده، فالتكنوقراط وبعض اليساريين السابقين هزموا أيضاً على لوائح القوى الطائفية، من زياد بارود إلى نعمة محفوظ وصولاً إلى أمين وهبي وغسان مخيبر… الخطأ صار معضلة تكوينية حقيقية، لأنه يشير إلى غياب مشروع سياسي واضح المعالم، يسعى إلى بناء ائتلاف شعبي ديمقراطي علماني ببرنامج سياسي واجتماعي ونقابي متكامل.
عندها لن يكون التسلل إلى المجلس النيابي الطائفي هو الهدف، بل سيكون الهدف تأسيس قاعدة شعبية للبنان آخر.
ما تعيه الطبقة السياسية الحاكمة هو أن لبنان القديم يُحتضر، وما التسويات التي ترعاها القوى الدولية وتنخرط فيها «المكونات» اللبنانية سوى محاولة لإطالة عمر النظام القديم خوفاً من المجهول، أو في انتظار حسم الأمور إقليمياً ودولياً.
والكل يعرف أن الحسم بالغ الصعوبة ودونه الأهوال، بل قد يكون شكل الحسم الذي تفضله إسرائيل والولايات المتحدة هو ترك المنطقة تنزف إلى ما لا نهاية، وهذا يعني على المستوى اللبناني أن الوطن الناقص سيبقى معلقاً، وسيستمر في الحياة على إيقاع الرعب الاستبدادي، ومناخ الانقلاب الزاحف.
ليست مهمة قوى التغيير المساهمة في هذه اللعبة، فاللعبة تجري من دون الحاجة اليها، مهمتها أن تؤسس للبديل السياسي والثقافي والاجتماعي. ولعل عجزها الأكبر عن القيام بذلك تجلّى في الملهاة الانتخابية التي كانت إعلاناً بأن لبنان لا يزال وطناً مؤجلاً، في انتظار تبلور قوى التغيير الجذرية التي صار غيابها فضيحة.
حاشية: قبل أن تتبلور موازين القوى داخل فيدرالية الطوائف اللبنانية عبر تشكيل الحكومة الجديدة، جاء مرسوم تجنيس المليونيرية، ليشير ليس إلى الفساد المستشري فقط، بل إلى الاستخفاف بالمنطق الذي وصل إلى ذروته عبر رفض إعطاء المرأة اللبنانية الحق في تقديم الجنسية لأولادها، بينما تُمنح الجنسية لأثرياء يُشكّل بعضهم صمام أمان اقتصادياً للنظام السوري، وسيكون دورهم غسل أموال النظام عبر لبنان.
إنه موز جمهورية الموز اللبنانية التي حوّلها أمراء الحروب والطوائف إلى مزبلة.
الياس خوري
نعم وكما قلت يا أستاذ إلياس: إنه موز جمهورية الموز اللبنانية التي حوّلها أمراء الحروب والطوائف إلى مزبلة.! ولا حول ولا قوة الا بالله
الدولة معرضة الى المزيد من التدهوروالهشاشة طالما بقيت اسيرة دويلة حزب الله وواليه. لا يبشر اليوم بغير التدهور العام والمزيد من العقوبات الدولية التي باتت السبيل الوحيد لانقاذ لبنان من التفتت واهشاشة والانهيار