الضخ الإعلامي الذي رافق مشاركة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تظاهرة باريس ضد الإرهاب، والحديث الذي دار عن فرضه لنفسه، بالمشاركة في تلك التظاهرة، من دون دعوة، وإيراد تفاصيل صغيرة عن تدافع وتدافش للوصول إلى الصفوف الأولى، أو الصعود إلى الحافلة والتسلل إلى هذا المكان أو ذاك، كما والإعلان بأن فرنسا الرسمية لم تكن تحبذ وصول نتنياهو إلى باريس، لاسيما بعد تصريحاته التي أطلقها، داعيا فيها يهود فرنسا ويهود العالم كله للهجرة إلى إسرائيل، واعتبارها وطنهم وبيتهم!
ورغم الجرائم التي ارتكبها نتنياهو وأفراد جيشه تجاه الفلسطينيين، وآخرها جريمة حرب غزة الأخيرة، التي أودت بحياة الآلاف وشردت مثلهم، ومن بينهم مئات الأطفال والكبار في السن، أغلبية كبيرة من بينهم من المدنيين الذين كانوا ضحايا لأكثر جيش «مناقبي وأخلاقي» في العالم. بحسب تعبير نتنياهو نفسه، إلا الرئيس الفرنسي ذهب إلى الكنيس اليهودي بنفسه للتعزية بالقتلى اليهود الأربعة، وكان نتنياهو في استقباله، حيث ألقى كلمة، وقيل إن الرئيس الفرنسي خرج من الكنيس قبل أن يبدأ نتنياهو بإلقائها، حيث دعا فيها بلدان العالم إلى التضامن ضد الإرهاب، (طبعا الإسلامي منه). كما أن الحكومة الإسرائيلية ضغطت على أهالي القتلى من اليهود للموافقة على دفنهم في القدس.
هذا ما تم ومن دون أي اعتراض رسمي فرنسي، علما بأن القتلى الأربعة هم افتراضيا وواقعيا من المواطنين الفرنسيين؛ الأمر الذي يعيد طرح هوية اليهود في البلدان التي يعيشون فيها من جديد وبتكرار ممل، فهل هم مواطنون كغيرهم من المواطنين، بغض النظر عن الديانة التي ينتمون إليها، وبالتالي ضرورة خضوعهم لقوانين وإجراءات وتعاملات متساوية؟ أو أنهم أصحاب امتيازات، وهم «البقرة المقدسة» التي يجب ألا تمس، مهما فعلت وتصرفت حتى ضد القوانين. وإلا فإن ذلك سيطلق عليه «لاسامية» أو معاداة لليهود!. وما ذلك إلا إشكالية لا زالت مستمرة وقائمة وتثار بين فترة وأخرى، وكلما حدث حادث ما.
هذا في حين استغل الصهاينة في فلسطين المحتلة، وفي فرنسا وفي البلدان الأخرى، الجريمة التي تم ارتكابها في باريس مؤخرا، للدعوة وبأعلى الأصوات وأوضحها، إلى هجرة اليهود من أوطانهم والذهاب إلى فلسطين المحتلة، حيث الأمن والأمان والتقديمات الاجتماعية المناسبة، بحسب ما ذكرت بعض المصادر الإسرائيلية.
كما تم إطلاق دعوات تحريضية ضد المسلمين في البلدان الأوروبية والأمريكية، وتم نعتهم بالإرهاب. كما أن بعض الجاليات اليهودية رفعت أصواتها للمطالبة بمزيد من الحماية ، كما في البلدان الاسكندنافية، وربما ترتيب هجرات لهم؛ وهذا يؤكد أن هناك مشكلة في الهوية والانتماء والاندماج من قبل أوساط واسعة في الجاليات اليهودية في العالم، علما بأن يساريين يهودا في فرنسا صرحوا لصحيفة «يديعوت أحرونوت» بأنهم فرنسيون «ولا شأن لإسرائيل بنا». كما أن الحاخام الأكبر في فرنسا قال إن على الدولة الفرنسية توفير الحماية والأمن ليهود فرنسا باعتبارهم من مواطنيها. رغم ذلك يمكن القول إن الهجرة في الأوساط اليهودية الفرنسية في ازدياد تدريجي لافت، حتى قبل الجريمة البشعة التي ارتكبت في باريس، إذ أشارت المصادر الرسمية إلى أن 6960 مهاجرا فرنسيا وصلوا إلى إسرائيل حتى نهاية عام 2014، علما بأن تقديرات وزارة الاستيعاب الإسرائيلية كانت تفترض وصول نحو أربعة آلاف مهاجر فقط في نهاية ذلك العام. الأمر الذي يؤكد أن الدعاية وتزيين حسنات الهجرة آخذة في تحقيق أهدافها وانتشارها. ما يعني أن أرقام الهجرة والهجرة المضادة بحاجة إلى معالجة أخرى.
علينا التذكير هنا بوقائع لم يمض عليها الزمن، وهي تؤشر إلى أنه وعلى الرغم من المزاعم التي تشير إلى أن موقف السلطات الفرنسية، آخذ في الاقتراب من مؤشر بعث الأمل في أوساط الفلسطينيين والعرب الآخرين، بأن السلطات الفرنسية بصدد تحقيق معادلة متوازنة في مواقفها بين المصالح الفلسطينية والإسرائيلية. إلا أن ذلك لم يتأكد تسجيله حقيقة على أرض الواقع. ودليلنا على ذلك ما حدث أثناء زيارة نتنياهو إلى فرنسا في أوائل نوفمبر 2012، بعد مقتل ثلاثة تلاميذ من اليهود ومدرس لهم في مدينة تولوز الفرنسية. وأثناء ذهاب الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي إلى المدرسة، قال نتنياهو «إن إسرائيل على استعداد لاستقبال اليهود من فرنسا والعالم وحمايتهم، كونها وطن يهود العالم كلهم»، فما كان من الرئيس الفرنسي إلا الرد قائلا «يجب على يهود العالم أن يعلموا بأن الجمهورية الفرنسية تضع كل إمكاناتها لحمايتهم، وأن ضمان أمنهم قضية وطنية»، وأضاف «هذه ليست قضية اليهود، وإنما قضية الفرنسيين بأسرهم. وأعاد التذكير بتصميم الجمهورية الفرنسية على محاربة ومعاداة السامية، وستمنع كل تجلياتها، سواء كانت تجليات بالأفعال أو حتى بالأقوال.. وهذا ما يجدر بأي مسؤول يحترم بلده وقوانينها وسيادتها أن يقوله ويفعله. إلا أن ذلك لم يحصل في الموقعة الأخيرة، وقاله نتنياهو من دون أن يعترضه أحد علنيا وبشكل مباشر. فهل هذا لا يستفز أي وطنية فرنسية، ولا يدفع إلى الاعتراض عليه؟. وهل الاعتراض على ما حدث هو «لا سامية» على سبيل السؤال والافتراض؟
إن ميزان العــــدل الفرنســــي مائل نحو الجهات الصهيونية، وكل ما عدا ذلك هو من نوع الأماني، وأخشى القول إنه من نوع الأوهام حتى الآن. وإن كان هناك من نفاق، وإعطاء أو التلويح بإعطاء «حلاوة» من طرف اللسان في هذه المرحلة فقط.
٭ كاتب فلسطيني
سليمان الشّيخ