غزة – «القدس العربي» ترفع الشابة الفلسطينية، سميرة عاشور، ذراعيها، إلى الأعلى، وتضع راحتي يديّها فوق رأسها، ثم تأخذ نفساً عميقا، يعقبه زفير طويل، فيما تحاول جاهدة، أن تُرخي عضلات جبينها المقطب، وحاجبيها المعقودين.
تُكرر عاشور (اسم مستعار)، الحركة على مدار عشر دقائق، وهي تتلقى إرشادات من مشرفتّها، بأن تأخذ نفسا عميقا من خلال «الأنف» وليس الفم، وأن تحرص على إرجاع كتفيّها إلى الوراء.
وبعد كل جلسة من تلك التمارين الخاصة برياضة «اليوغا»، ضمن برنامج مهارات علاج الجسد، والروح والعقل الذي ينفذه للمرة الأولى مركز صحة المرأة التابع لجمعية الهلال الأحمر لقطاع غزة (أهلية)، يُراود عاشور إحساسا بأنّ غضبّها اليومي المتكرر، قد بدأ في التلاشي.
هذا الغضب الذي تولد بفعل الحرب الأخيرة على قطاع غزة، وما خلّفته من آثار بعد 51 يوما من القصف والتدمير والموت، كما تقول.
ولأنّ رياضة اليوغا عبارة عن تابو (أمرا محظورا) في غزة، ترفض عاشور (35 عاما) الكشف عن اسمها الحقيقي، وتكتفي باسم مستعار، غير أنها لا تشعر بأي حرج من ممارسة هذه الرياضة، التي تعرفت عليها ضمن البرامج النفسية التي يقدمها مركز صحة المرأة.
ويبدو صوتها مخنوقا وهي تتابع: «الحرب خلّفت أوجاعا لا يمكن وصفّها، بعد العدوان الإسرائيلي، أصبحت عصبية، وأدخل في نوبات من الغضب، وأصرخ على صغاري (خمسة أطفال)».
وعاشور واحدة من آلاف النساء، اللواتي أصبحنّ ضحايا لآثار الحرب الأخيرة وما تركته من تدمير لمنازلهنّ، وفقد لأزواجهنّ وأبنائهنّ، وحتى حياتهنّ الخاصة.
وعاشور التي تنام في مركز للإيواء، بعد أن تحول منزلها المكون من طابقين إلى كومة من الركام، تجد في رياضة «اليوجا» حلا مثاليا للتعافي من أزمتها النفسية.
هذه الأزمات تتراكم يوما بعد آخر، لتخلف وجعا لا يمكن مقارنته مع أي ألم جسدي، كما تقول سوزان إسماعيل (اسم مستعار). وتُضيف إسماعيل (41 عاما) والتي باتت تحمل لقب (أرملة)، بعد مقتل زوجها خلال الحرب، إنّ «انتهاء العدوان الإسرائيلي، كشف عن الأحزان الكبيرة في داخلنا، وهو ما دفعنا للبحث عن الراحة النفسيّة». وتتابع: «المجتمع محافظ، في غزة، ولا يتقبل فكرة اليوغا، أو أي رياضة تهتم بالتفريغ النفسي، لكن نحن بحاجة ماسة لأنّ تتحول هذه الأحزان الصامتة، والوجع الخفي، إلى حركات رياضية، تساعدنا على الاسترخاء، ومواجهة أزماتنا».
وكلما فردت نهى أحمد (اسم مستعار)، ذراعيها إلى الأمام، ثم أرجعتّهم خلف ظهرها، مع تشبيك لأصابع يديها، وأغمضت عينيّها وتنفست بعمق لأكثر من 5 دقائق، وهي تكرر نفس التمرين، تشعر بأن الضغط العصبي الذي ينتشر في زوايا جسدّها تحول إلى طاقة إيجابية. وبصوت هادئ ناعم، قالت أحمد (29 عاما)، إنّها استمدته من التمارين المستمرة لرياضة «اليوغا»، بعد أن كانت تتحدث بحدة وخشونة بعد أسابيع من انتهاء الحرب الأخيرة. وتتابع: «كل سكان قطاع غزة، أصابهم التعب النفسي، سواء من تضرر أم لا، فالجميع هنا أصيب بصدمات حادة، ما رأيناه كان قاسيا، مرعبا، وكأنه فيلم رعب، واليوم بتنا بحاجة إلى مثل هذه التمارين».
وتنشر رياضة «اليوغا»، في أنحاء العالم، لمواجهة توتر الحياة، وضغوطها، عبر تمارين خاصة، تساعد في تنشيط العضلات، وتثبيط الطاقة السلبية في الجسم.
هذه الرياضة، لا تنتشر في قطاع غزة، ضمن مراكز مُخصصة، وليست شائعة، غير أن مريم شقورة، مدير مركز صحة المرأة في جمعية الهلال الأحمر، تراهن على أن تجد هذه الرياضة طريقها للانتشار بين صفوف الفلسطينيين الموجوعين. وتقول إنّ «مركز صحة المرأة، نفذ بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، نحو 25 دورة للعلاج النفسي، كان من بينها التدريب على رياضة اليوغا». وتتابع شقورة: «استهدفنا المناطق المدمرة، والأحياء السكنية التي تعرضت لقصف عنيف وواسع، وكان هدفنا الأساسي النساء في مراكز الإيواء، في البداية كان هناك شعور بالحرج، فالمجتمع الفلسطيني بطبيعته يرى في العلاج النفسي تابو (أمرا محظورا)، وخط أحمر لا يمكن تجاوزه، ولكن ما خلفته الحرب كان أقوى من كل (التابوهات)، والنساء أردنّ أن يتحدثن، عن أوجاعهنّ، يسارعنّ للبحث عن دواء».
وشنت إسرائيل في السابع من يوليو/ تموز الماضي، حربا على قطاع غزة، أسفرت عن مقتل أكثر من ألفي فلسطيني، وجرح 11 ألفا آخرين، فضلا عن تدمير نحو 90 ألف منزل، ووفق بيانات أممية، فإن أكثر من مائة ألف شخص من سكان غزة، مازالوا مشردين حتى اللحظة، بينهم 50 ألف يعيشون في مبانٍ تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
واستعان المركز، كما تؤكد شقورة بخبراء عالميين، 4 من إيطاليا وواحد من أمريكا لتدريب النساء على رياضة اليوغا. وبعد الحرب الإسرائيلية قام الخبير الأمريكي تيد ريوش، بعقد جلسات العلاج بـ»اليوغا»، وتدريب وتخريج مشرفات على إتقان تعليم فن هذه الرياضة.
ويسعى المركز، إلى تخصيص مركز كامل وشامل لهذه الرياضة التي من شأنها أن تُصفي الذهن، وتمد الإنسان بطاقة إيجابية. وتستدرك شقورة:» أنا واثقة أن المجتمع سيتقبل هذه الرياضة، فقد لاقت ترحيبا واسعا من قبل النساء اللواتي تدربنّ داخل المركز، وفي أماكن مغلقة في عدد من المتنزهات، واليوم نسعى إلى إنشاء مركز متخصص بهذه الرياضة. هذا المكان سيكون آمنا، وسيراعي خصوصية النساء في قطاع غزة، بل لن يتم فرض أي شروط على ما ترتديه النساء خلال ممارسة الرياضة، التي أدخلها مركز صحة المرأة، للمرة الأولى على مستو مؤسسات أهلية ورسمية في غزة»، وفق شقورة. وتمضي بنبرات واثقة:» هناك متخصصات في إتقان رياضة «اليوغا»، وهنّ من سيشرفنّ على تدريب النساء، ولن نفرض أي زي خاص، وبإمكان المرأة أن ترتدي حجابها، وما تحب من ملابس، هدفنا الأساسي هو التفريغ النفسي، تحويل الطاقات السلبية إلى إيجابية».
ولأنّ غزة مرت بثلاث حروب، ولا تزال تخضع لحصار إسرائيلي خانق، للعام السابع على التوالي، وتزداد قسوة المشهد السياسي والاقتصادي الراهن، فإن شقورة، تتمنى أن يتم تبني برامج مهارات الروح والجسد، رسميا، وتقديمـها للنساء المحتاجات.