باريس ـ «القدس العربي» سليم البيك: قبل الحديث عن الفيلم، لا بد أولاً من الإشارة إلى ما يندر حدوثه هنا، في السينما، وهو يخص مخرج الفيلم الكوري الجنوبي سانغ- سو هونغ، فقد خرجت له هذا العام ثلاثة أفلام، نال أحدها فضية أفضل ممثلة لكيم مين- هي في مهرجان برلين السينمائي، وشارك اثنان في مهرجان كان الســــــينمائي هذا العام، وهما كذلك من بطولة الممثلة الكورية (التي أبدعت في فيلم «الخادمة»)، فيلم «كايمرا كلاير» وفيلم موضوع هذه الأسطر «اليوم التالي»، الأفــــــلام الثلاثة من بطــــولة النجمة ذاتها.
ثلاثة أفلام في عام، اثنان منهما في المهرجان ذاته، واحد في المسابقة الرسمية والآخر في عرض خاص، وليس ذلك بعد انقطاع عن الإخراج، بل بجردة سريعة لسيرة هونغ الفيلميّة نجد أنّه سبق وأخرج أكثر من فيلم في السنة، دون أن ينقطع طويلاً عن الإخراج منذ فيلمه الأول عام 1996، وهي بمعظمها أفلام فنّية نالت جوائز وترشيحات متعدّدة في مهرجانات دوليّة.
أما «اليوم التالي»، فهو مقتصر على أربع شخصيات: مدير دار نشر وناقد معروف، ومساعدته السابقة وهي عشيقته، والمساعدة الجديدة وهي البطلة، وهي فتاة تحب الأدب ورقيقة، وزوجته الغيورة والعنيفة. لا أحد آخر غيرهم نراه في الفيلم، لا وجوه غير هذه الأربعة.
أربع شخصيات تبني الحكاية كلّها، بأحاديث متكرّرة، عادية، بلحظات صمت واقعية، وبأمكنة محدودة كذلك: البيت، الطريق منه إلى المترو، مكان العمل، المطعم. ما جعل الفيلم معتمداً أساساً على السيناريو، وأداء ممثليه، إضافة إلى الصورة شبه الثابتة. أما الزمن فهو يوم واحد، من فجره إلى ليله، مع مشهد واحد أخير يأتي بعد زمن الفيلم بأشهر لينهيه.
الفيلم فيلم مخرجه، فهو كذلك كاتب السيناريو، فأتى بحوارات متقشفة كالأمكنة، بأسلوب يذكّرنا بالفرنسي إريك رومير، بارتباكات بين الشخصيات والمواقف التي تُصنع بينها، وهي ثلاث نساء ورجل، لا تعرف النساء بعضهن، أما الرجل فهو يعرفهن كلاً على حدة.
مدير دار النشر، وهي صغيرة بغرفتين، يتناول فطوره قبل أن يخرج باكراً من بيته، تسأله زوجته إن كان يواعد امرأة غيرها. يخرج إلى عمله قبل طلوع النّهار، في المكتب يستقبل مساعِدة جديدة. يجري حوارٌ عادي بينهما، يتعرف عليها أكثر، يدعوها إلى الغداء ويكملان حديثهما، ينتقلان من حديث التعارف المباشر إلى أحاديث تجري بين اثنين يعرفان بعضهما منذ فترة. كل ذلك يتخلّله تداخل بين الزمن الراهن، وهو شتاء، والصيف، حيث كانت المساعِدة السابقة مكان هذه، إذ تنتقل المشاهد بين الزمنين والامرأتين في الأمكنة ذاتها وأحياناً بأحاديث متقاربة، كلاهما مثلاً تخبره، كلٌّ بطريقتها، بأنّه جبان.
نعرف أنه كان على علاقة بمساعدته السابقة، وأن زوجته كانت على حق في شكوكها، يستمر التداخل في المشاهد إلى أن تأتي زوجته، في اليوم ذاته، إلى المكتب وتصفع المساعدة الجديدة بسبب ورقة وجدتها في البيت، وهي قصيدة كان الرجل قد كتبها لمساعدته السابقة واضحة فيها هويتها كموظفة لديه. في اليوم ذاته تعود العشيقة ويقرر الرجل استعادتها للعمل وإنهاء تلك الجديدة عن عملها. وتستمر الحكاية بتعقيدات تخرج عن أخرى.
الفيلم مصوّر بالأبيض والأســـود، فيعطي المحدوديةَ في الشخصيات والمكان والزمـــان وكذلك الأحداث، إذ أن هذه الأخــــيرة محكــــومة بها، ليعطيها محدوديةً في الألوان كذلك، إنّمــــا مانحاً مكانة أساسية في الصورة للإضاءة، ولما يمكن ملاحظته كذلك من الألوان الأصلـــية لما هو داخل الإطار في الفيلم، فهذه كذلك يمكن بســــهولة تصنيفها بين الغامق والفاتح، في المكتب حيث الكتب البيضاء وكذلك الديكـــور، في الخارج فجراً حيث العتمة التي يدخل منها إلى إضاءة ساطعة لمحطة المترو، في ملابسهما الغامقة، السوداء غالباً، فكان التباين بين الأبيض والأسود في الفيلم ظاهراً، تباين ظاهر كذلك بين الامرأتين المتقابلتين فيه، المساعدتين: الجديدة الطيّبة المخلصة والمحبة للقراءة، والسابقة العشيقة الدائمة التي لا تسعى لغير رغباتها مع مديرها.
الموسيقى كذلك كانت محدودة، نغمة واحدة لا نسمع غيرها حين نسمع موسيقى، ومشوّشة كحال الرجل في الفيلم، الضائع بين النساء الثلاث.
حركة الكاميرا كذلك، فكانت غالباً ثابتة تتحرك من مكانها كأنّها مُشاهد خارجي يحرّك رأسه باتجاه المتحدّثين في الفيلم.
الأحاديث محدودة، فالعديد من مضمونه وكلماته يتكرّر، وما يجعل فيلماً كهذا، مينيماليست متقشّف، وبكل هذه المحدوديات، فيلماً متكاملاً، بساعة ونصف الساعة من المتعة في هذا الضيق، شخصياتياً، مكانياً، زمانياً، لونياً، هو التركيبة النهائية لها جميعها، مع بعضها، لتخرج أخيراً كعمل فنّي سينمائي يؤكّد مجدداً مكانة السينما الكورية المتقدمة في العالم.