انتخاب ترامب: من نهاية التاريخ وسقوط جدار برلين إلى عودته للوراء وبانتقام

حجم الخط
1

لا شيء يلخص الهزة التي حدثت في أمريكا صباح يوم الأربعاء 9/11/2016 إلا غلاف مجلة «نيويوركر» في عددها للأسبوع المقبل، فقد اختار فنانها بوب ستاك الذي عادة ما يرسم الصورة الرئيسية للغلاف رسمه على شكل جدار من الطوب الأحمر يرتفع ليغطي العنوان تقريبا. وتعتبر مجلة «نيويوركر» واحدة من المطبوعات التي ردت على انتخاب المرشح الجمهوري دونالد ترامب فقد وصفت «نيويورك دايلي» النتائج بأنها «بيت الرعب» أما مجلة «إيكونوميست» البريطانية فقد قالت إن ليلة الثلاثاء التي عدت فيها الأصوات هي «ليلة الخوف/الرعب». أما «دير شبيغل» الألمانية فقد كتبت «نهاية العالم كما نعرفه» ووصفت صحيفة «الغارديان» قرار الأمريكيين بأنه «يوم مظلم في العالم».
ويعبر جدار «نيويوركر» وردود الفعل العالمية عن الشعور العام الذي أصاب الملايين من العالم وهو الخوف من عصر ترامب الذي شق طريقه للبيت الأبيض عبر تأجيج العنصرية والعداء للأجانب والكراهية للمسلمين واستخدم سخط قطاع من الأمريكيين اعتقدوا أن البلاد تخرج من أيديهم وأثار فيهم نعرات قومية فارغة «لنجعل أمريكا عظيمة» وشهر بأول رئيس أمريكي من أصول مسلمة ووعد بسجن منافسته في الانتخابات هيلاري كلينتون وشكك بالنظام الانتخابي وهو نفس النظام الذي أوصله للبيت الأبيض كما ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» (9/11/2016) وقالت إن المفارقة التاريخية هي أن النظام احترم إرادة الأمريكيين وعبر الرئيس والمرشحة الخاسرة هيلاري كلينتون عن كرامة في الهزيمة إلا أن ترامب سيقابل احترام الرئيس الحالي بمحو إنجازاته التي عمل عليها خلال الثماني سنوات الماضية، فسيلغي «خطة أوباما الصحية» ووعد بتمزيق الاتفاق النووي الذي بذلت فيه إدارة أوباما جهدا كبيرا لتوقيعه مع إيران. ووعد ببناء جدار مع المكسيك.
وإذا أخذنا الجدل الذي أثير حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، فرح موسكو ورفض المرشح شجب القرصنة الإلكترونية لمركز الحزب الديمقراطي، وما أوردته صحيفة «واشنطن بوست» (11/11/2016) عن مسؤولين روس أن حملة ترامب التقت مع مسؤولين روس فقد عاد التاريخ للوراء.
في عام 1989 كتب المؤرخ والمحلل السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير «نهاية التاريخ» واحتفى فيه بانتهاء الحرب الباردة وانتصار الليبرالية الغربية. وكان انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 النقطة التي انتهى فيها التاريخ والحرب بين الشيوعية والرأسمالية. فبعد مواجهة بدأت في العقود التي تبعت الحرب العالمية الثانية تسيدت الليبرالية الغربية الديمقراطية والسوق الحر العالم. وكما تقول مجلة «إيكونوميست» (12/11/2016) «في الساعات الأولى من 9 تشرين الثاني (نوفمبر) تجاوز دونالد ترامب الرقم في المجمع الانتخابي اللازم لفوزه كرئيس وأصبح الرئيس المنتخب، ومعه اهتز ذلك الوهم وعاد التاريخ للوراء وبانتقام».
وهز وصول ترامب إلى السلطة الكثير من اليقينيات التي بنى الغرب عليها رؤيته للعالم خلال الثلاثين عاما الماضية. والمهم في عودة التاريخ هي أن انتصار ترامب جاء مفاجئا له ولحزبه وضربة لاستطلاعات الرأي والمحللين والصحافة الليبرالية التي كانت واثقة أن فوز كلينتون مؤكد. وكما تقول «إيكونوميست» ففي أمريكا «أهانت حملة انتخابية غير بارعة وفوضوية صناعة من المستشارين والمحللين ومؤسسات الاستطلاع» ولو مضى قدما في تحقيق ما وعد به أثناء الحملة الانتخابية وتحدى المؤسسات التي تنظم الحياة السياسية «فلا أحد يمكنه التكهن بالكيفية التي سنتحمل» هذه التحديات. وفي الخارج فقد هاجم كل المعتقدات التي آمن بها كل رئيس أمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهي أن أمريكا تستفيد من دورها كقوة مهيمنة على العالم، فلو قرر ترامب العزلة وفك ارتباط الولايات المتحدة مع العالم فمن سيحل محلها؟ وهو سؤال مفتوح يتطلع إليه المحللون الذين عادوا لتكهناتهم وانتظار يوم 20 كانون الثاني (يناير) 2017 حيث سيتولى ترامب المنصب رسميا.

من أوروبا

وفي الوقت الحالي كشف قرار قطاع من الأمريكيين انتخاب ترامب عن نهاية لليقينيات التي حكمت علاقة أمريكا وشعبها بالعالم والعولمة وهزت إيمان الكثير من الحلفاء إن في أوروبا أو الشرق الأوسط وهما منطقتان مهمتان للسياسة الخارجية الأمريكية، حيث حلف الناتو والنفط. وعلى العموم فمسألة النفط والشرق الأوسط باتت غير مهمة للولايات المتحدة بعد الثورة في استخراج النفط من الصخر الزيتي واكتفائها ذاتيا، ورؤية الرئيس باراك أوباما التي تقترب كثيرا من رؤية ترامب، فكلاهما يدعو لتحلل أمريكا من أعبائها في الخارج والبحث عن مصلحتها.
ويبدو أوباما أكثر فصاحة في التعبير عن موقفه من طريقة ترامب الصدامية المتقلبة والتي لا تحفل بالأرقام والتفاصيل والذي يتعامل مع العالم من خلال مهنته كرجل أعمال. أما الناتو فهو حلف يهم الولايات المتحدة في ظل الغطرسة الروسية وتهديد فلاديمير بوتين لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا خاصة دول بحر البلطيق. صحيح أن فكرة أوروبا الموحدة تتعرض منذ تدفق ملايين اللاجئين لامتحان كبير وهناك مشكلة بين بروكسل، مقر الاتحاد الأوروبي والدول التي انضمت حديثا للاتحاد ومعظمها من شرق أوروبا.
وكما هو الحال في أمريكا حيث الخيبة من ثمار العولمة التي انعكست على الطبقة العاملة البيضاء والحنق على واشنطن التي لم تلتفت لهم لأنها تعيش تحت سيطرة جماعات المصالح، فالوضع مشابه في أوروبا حيث هناك في بروكسل نخبة مهترئة ومترهلة وغير قادرة على مواجهة أزمات القارة العجوز، سواء كانت متعلقة بمنطقة اليورو أو تدفق المهاجرين أو التعامل مع تداعيات توسعة عضوية الاتحاد الأوروبي. وأدى هذا إلى حنق قطاعات عدة من التغيرات الحادثة على المجتمعات وأدى لصعود حركات اليمين المتطرف التي بدأت تستغل مشاعر الحنق لدى السكان، ولهذا السبب فرح اليمين الأوروبي بفوز ترامب. وكانت زعيمة الجبهة القومية الفرنسية مارين لوبان أول من رحب لأنه يعطيها زخما في الانتخابات المقرر عقدها العام المقبل.
ولا بد من الإشارة هنا لأثر «البريكسيت» في بريطانيا، حيث قرر البريطانيون بهامش قليل التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. ويظل أثر البريكسيت البريطاني منحصرا في أوروبا مع أنه فجر مشاعر العنصرية واستخدم دعاته كل ألوان الكراهية واستعاد زعيم حزب الاستقلال نايجل فاراج- الذي استقبله ترامب لاحقا أثناء حملته الانتخابية- صورا من التاريخ النازي، واستخدم هو من معه لغة التخويف بدون أدلة – كما فعل ترامب- وقالوا إن ملايين الأتراك يحزمون حقائبهم استعدادا لاجتياح أوروبا. وبعد ستة أشهر من نجاحهم استطاع ترامب تحقيق نجاح وبتداعيات أكبر، فهو كما قال «بريكسيت زائد زائد».
والمشكلة في كل هذا هي اللعب على فكرة «المظلومية» فالجماعات الغاضبة التي قررت دعم البريكسيت في بريطانيا وتلك التي مشت وراء ترامب ترى أنها محرومة وفقدت الثقة بالنفس وبواشنطن «الجبانة» التي لم تستطع الوقوف أمام المهاجرين ولا رجال الأعمال من الخارج، كل هذا في ظل تراجع فرص العمل التي ظلت أقل من المسـتويات المسـجلة في السبـعينات من القـرن الماضي.
ومن هنا استطاع ترامب استغلال والتلاعب بمشاعر الغضب داخل المجتمعات الريفية، وغالبيتها لم تحصل على شهادات جامعية. وأبدى هؤلاء استعدادا للتغاضي عن فضائحه الجنسية وسلوكه تجاه المرأة ومواقفه ضد المسلمين والأجانب والمهاجرين.
وبالنسبة للكثير فآثامه لا تهم مقارنة مع المشكلة الكبرى: أمريكا بحاجة لإصلاح. وأقنع ترامب أتباعه بصدق مقولاته وقدرته على إعادة المجد لأمريكا لأنه جاء من خارج المؤسسة الجمهورية التي تسابق كبارها على شجبه.
ومن هنا تعامل الأمريكيون الذين دعموا ترامب معه بشكل جدي وأمنوا بقدرته على حل مشاكل البلاد. وهذه هي معضلة ترامب الحقيقية بعد الفوز وفيما إذا كان قادرا على الوفاء بما وعد. يرى فوكاياما في مقال نشرته مجلة «فورين أفيرز» (10/11/2016) أن ترامب وإن نجح بتعبئة الجزء المهمل وغير الممثل ودفع بأجندته لتصبح من أولويات السياسة في البلاد لن يكون قادرا على تحقيق ما وعد لأن الواقع غير الشعارات. وقدم تحليلا لوعوده المتعلقة بزيادة الوظائف والتصنيع التي لا تأخذ بعين الإعتبار التطورات التكنولوجية التي جعلت المصانع اليوم تستغني عن اليد العاملة الكبيرة. وبالنسبة لوعوده بإنعاش مناجم الفحم فما لم يعرفه أو لم يقله ترامب هو ان هذا القطاع لم يعد مهما للطاقة في أمريكا بعد ثورة الصخر الزيتي. وحتى حلوله المتعلقة بالأخذ على يد جماعات المصالح ليست عملية. وكل ما سيكون قادرا على فعله هو زيادة التعرفة الجمركية بشكل سيؤثر على الشركات الأمريكية الكبرى مثل «آبل « و «بوينغ» و»جي إي». ويقول فوكاياما إن انتصار ترامب يعد صدمة للنظام العالمي إلا أن حله ولسوء الحظ قائم على النظرة الشعبوية الاستبدادية التقليدية والتي ترى في الزعيم الجذاب مصدرا للثقة والقدرة على حل المشاكل كلها. ويعتقد فوكوياما أن إصلاح أمريكا لا يأتي عبر هذه الشعارات ولكن بصدمة خارجية تدفعها للإصلاح. والمأساة الحقيقية في انتخاب ترامب هي ضياع الفرصة لتحقيقه تماما كما فعل سيلفيو برلسكوني في إيطاليا من قبل. ومثل هذا فلن يكون الرئيس الأمريكي المنتخب ناجحا.

ليس ريغان

ويحلو للبعض مقارنة الوضع الحالي بانتخاب ريغان عام 1980 وترى صحيفة «فايننشال تايمز» أن المقارنة قاصرة نظرا للتغيرات التي مرت على الاقتصاد الأمريكي خلال الـ 36 عاما التي تفصل بينهما. وتشير إلى أن تصريحات ترامب الغاضبة والمتعلقة بالاقتصاد لا يمكن أن تترجم إلى سياسة اقتصادية واضحة، إلا أن الرئيس المنتخب قدم بعض الأفكار المتماسكة التي ستترك أثرا على الاقتصاد الأمريكي واقتصاد الدول الصاعدة، فقد عبر عن التزام بتخفيض الضرائب والاستثمار في مشاريع البنية التحتية وتوفير ملايين الفرص للأمريكيين.
ومع ذلك ترى اللجنة حول ميزانية فدرالية مسؤولة إن خطة ترامب الضريبية غير المدعومة قد تضيف إلى الدين الأمريكي العام 5 تريليون دولار بحلول عام 2026. وتعلق الصحيفة أن الخطة المالية والإنفاق العام الذي يقترحه ترامب على مشاريع البنية التحتية قد يؤدي إلى عجز بالميزانية وبالتالي زيادة في التضخم بشكل يؤثر على السياسة النقدية. وتضيف أن خطط ترامب الضريبية لا يمكن الدفاع عنها، فقد تجلب تحسنا مؤقتا في الدخل للطبقة التي يدعي أنه يمثلها لكنها ستثري في النهاية الأغنياء. وعلى العموم فخطط ترامب الاقتصادية تعتمد على علاقته مع الكونغرس والتعيينات التي سيختارها. وفي الوقت الحالي يعتمد الرئيس المنتخب على حلقة ضيقة من المستشارين التي قالت «نيويورك تايمز»(11/11/2016) إنها غير مجربة، وهناك إشارات لعقاب الشخصيات التي هاجمته أثناء الحملة ومعظمها من أصحاب التجربة والخبرة المهمة لنجاح رئاسته. ولهذا يشكك الكثيرون في أن يكون ترامب رئيسا جيدا بسبب السياسات التي تبناها ومزاجه الغاضب والمطالب التي سيفرضها عليه المنصب. وسيكتشف ترامب قريبا أن العالم الذي سيراه من نافذة المكتب البيضاوي يختلف عن العالم الذي كان يشاهده من شرفة «برج ترامب» في نيويورك. وفي النهاية تظل الدراما أو التراجيديا الأمريكية الجديدة محلا للدهشة والتساؤل عن طبيعة الدور الأمريكي في العالم وعلاقة الأمريكيين مع بعضهم البعض.

لنعد للرواية

وكما لاحظت «الغارديان» (9/11/2016) فالمخاوف من انتخابه تعني إطلاق أجندة محافظة في واشنطن، وما ستتركه من أثر على العلاقات العرقية والانجازات التي تحققت بانتخاب أول رئيس أسود عام 2008 . وقالت «لقد قام الأمريكيون بعمل خطير هذا الأسبوع، وبسبب ما فعلوه فسنواجه كلنا أوقاتا مظلمة ومخيفة». وأخيرا كتب جيمس تروب في «فورين بوليسي» (9/11/2016) «قضيت معظم العام الماضي وأنا أكتب عن التحديات للنظام الليبرالي في أوروبا ولم أكن اتوقع أن ما حدث في بولندا وهنغاريا سيحدث هنا». وعلينا العودة لفهم ما جرى لرواية، فيليب روث «المؤامرة ضد أمريكا» حيث يفوز مؤيد للنازية بترشيح الحزب الجمهوري ويصل للرئاسة. الفرق بين الرواية والواقع أن الرئيس المنتخب متعاطف مع روسيا ومع كل الديكتاتوريين.

انتخاب ترامب: من نهاية التاريخ وسقوط جدار برلين إلى عودته للوراء وبانتقام

إبراهيم درويش

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Passerby:

    كما تقول الشارة أعلاه, شارع ترامب وهو شارع صغير في قلب لندن بالقرب من محطة بانك الشهيرة للمترو, الغريب أن هذا الشارع هو امتداد لشارع صغير آخر يدعى روسيا روو (صف روسيا) فهل هي مصادفة؟ وهل سيصطف ترامب مع روسيا؟ وماهي المصلحة هل حقاً على يديه ستتفكك الولايات المتحدة؟ السنوات القادمة ربما حبلى بالأحداث الجسام أو “ويأتيك بالأخبار من لم تزود”!

إشترك في قائمتنا البريدية