كان قرار الإعلان الرسمي عن «نهاية داعش» في 29 حزيران/يونيو 2017 قراراً متسرعاً لا يؤيده الواقع وقد جانبه الصواب وبدا سابقاً لأوانه.
وتزامن الإعلان عن «نهاية دويلة الباطل الداعشية» مع الذكرى الثالثة لإعلان أبو بكر البغدادي «دولة الخلافة الإسلامية» من منبر المسجد النوري الكبير الذي تناقضت الروايات حول الجهة التي أسقطت مأذنته التي مضى على بنائها نحو 850 عاماً. لا خلاف على هزيمة تنظيم «الدولة» في مدينة الموصل وفق معايير المعارك العسكرية، لكن هذا لا يعني الكثير طالما ان الهدف المتفق عليه بتحالف 68 دولة منذ تشكيله قبل ثلاث سنوات في آب/اغسطس 2014 هو هزيمة التنظيم والقضاء على تهديداته بشكل كامل.
لم ينته القتال في أحياء الجانب الغربي من مدينة الموصل حتى بعد أكثر من أسبوع على الإعلان الرسمي عن «نهاية داعش في العراق» لكن كتابة بيان إعلان «النصر والتحرير» وفقا لخلية الإعلام الحربي يبدو متزنا في سياق التهيئة لإعلان «النصر» بعد الانتهاء من السيطرة على ما تبقى من جيوب متفرقة بمحاذاة نهر دجلة في المنطقة القديمة من الموصل، وهي مسالة أيام وليس أسابيع.
السؤال أو التحدي الذي يواجه الجهات الرسمية التي أعلنت «انتهاء دويلة الباطل الداعشية» هو هل حقاً انتهت «دويلة الباطل الداعشية»؟ أم ان تهديدها لا يزال قائما؟ وإلى متى؟
مراقبون غربيون متابعون لمسار تنظيم «الدولة» يؤكدون مراراً على ان تنظيما يتمتع بأرضية أيديولوجية قائمة على جذب المجندين لا يمكن القضاء عليه دون القضاء على المسببات التي أدت إلى ظهوره وتنامي قدراته واتساع رقعة انتشاره.
الأسباب التي أدت إلى ظهور التنظيم منذ غزو العراق والسياسة الاقصائية والظلم الذي بات شعورا ملازما للعرب السنة لا تزال هي ذاتها رغم النبرة المعتدلة التي يحاول رئيس الوزراء حيدر العبادي تبنيها في التعاطي مع «مظلومية» العرب السنة؛ لكن نبرة كهذه لا يمكن لها اقناع المجتمع السني طالما ظلت الصورة العامة لسلطات العبادي حبيسة تسلط قيادات الحشد الشعبي التي بدت صاحبة النفوذ الأوسع والمتحكمة بالقرارين الأمني والعسكري. ومنذ تشرين الأول/اكتوبر 2016 دخلت القوات الأمنية قتالا شرسا مع تنظيم «الدولة» لاستعادة مدينة الموصل باسناد من الحشد الشعبي والبيشمركه الكردية وغطاء جوي مكثف من طيران القوة الجوية العراقية والتحالف الدولي؛ وخلال ثمانية أشهر اقتربت القوات الأمنية من استعادة كامل المدينة ظل تنظيم «الدولة» يشن هجمات مباغتة في محافظات كركوك وديالى وصلاح الدين والانبار، إضافة إلى عمليات هجومية بسيارات مفخخة استهدفت العاصمة ومدنا أخرى في محافظات كربلاء وبابل وغيرهما.
ولا يزال الحديث عن نهاية تنظيم «الدولة» في المراكز الحضرية مبكرا طالما ظل يحتفظ بسيطرة كاملة على خمسة أقضية رغم الحصار المحكم عليها منذ شهور أو سنوات، مثل قضاء الحويجة أهم أقضية محافظة كركوك وأكبرها وقضاء تلعفر ثاني أكبر قضية العراق من حيث الكثافة السكانية وأكبر أقضية محافظة نينوى، إضافة إلى أقضية القائم وعانه وراوة في محافظة الانبار على الحدود السورية مع محافظة دير الزور التي تخضع هي الأخرى لسيطرة شبه كاملة للتنظيم. كما ان الحديث عن نهاية تهديدات التنظيم في العراق ضمن المدى الزمني المنظور يبدو مجازفة غير محسوبة ومجانبة للصواب إلى حد بعيد طالما ان التنظيم لم تتعطل قدراته حتى الآن في شن هجمات «انغماسية» أو بالسيارات المفخخة وزيادة نطاق جغرافية عمليات كهذه إلى عشرات المدن في محافظات عدة منها هجمات متواصلة على معسكرات الجيش في الرطبة وقطع طرق رئيسية كما حصل هذه الأيام في طريق بغداد الموصل بين مدينتي القيارة والشرقاط التي لا يزال يتواجد التنظيم بشكل يقلق أمن المدينة في جانبها الأيسر، إضافة إلى عمليات تصفيات لقيادات في الجيش والحشد العشائري السني في الرمادي والفلوجة وغيرها من مدن الانبار ومحافظة صلاح الدين التي لا تزال جيوب التنظيم تتواجد بشكل واضح في سلسلتي جبال مكحول وحمرين ويشن التنظيم منهما هجمات منظمة على حقول النفط القريبة وعلى مدينة بيجي وغيرها بما فيها الموصل التي شهد حي الحدباء في الجانب الشرقي المحرر هجوما أدى إلى مقتل العشرات من الشرطة الاتحادية.
ومن المؤكد ان حملة قادتها الولايات المتحدة بحشد دولي وإقليمي ومحلي استثنائي طيلة ثلاث سنوات الحق الكثير من الخسائر في بنية تنظيم «الدولة» القيادية، وهو عامل مهم في اضعافه لكنه ليس حاسما وفقا لتجارب فقدانه كبار قياداته بشكل مستمر؛ كما ان التحالف في جانب آخر شن حملة إعلامية موازية انتدب اليها قنوات عربية ومراكز أبحاث على نطاق واسع لتقويض الصورة المتخيلة عن التنظيم الذي حاز تعاطفا واسعا بعد أحداث حزيران/يونيو 2014 حيث ظهر كقوة تحمي العرب السنة وتحررهم من «الظلم» الذي يتعرضون له على يد القوات الأمنية عموما والمجموعات الشيعية المسلحة قبل تأطيرها في هيئة الحشد الشعبي؛ لكن التنظيم ولأسباب كثيرة من بينها افتقاره لصيغ التعامل مع السكان الخاضعين لسطاته وفرضه بشكل متسرع فهمه الخاص للإسلام والإجراءات العقابية المشددة على المتعاونين مع الحكومة أو المخالفين لنمط العيش الذي فرضه، هذا وغيره أفقده الكثير من القبول في المجتمع السني، لكن ذلك قد لا يعني انه خسر بيئته الاجتماعية بشكل كامل.
لا توجد معايير واقعية لمعرفة حجم التأييد الذي ظل التنظيم يحوز عليه في أوساط المجتمع السني، لكن من بداهة القول ان عدم زوال الأسباب التي أدت إلى ظهوره ستؤدي حتما إلى استمرار القبول به وان كان على نطاق ضيق أو محدود قادر على اجتذاب المطلوبين اجتماعيا وفق الأعراف العشائرية السائدة في جرائم القتل والآخرين الذين أدرجت الجهات الأمنية أسماءهم ضمن قوائم المطلوبين لها، إضافة إلى الناقمين من ممارسات الأجهزة الأمنية والحشد الشعبي والذين تعرضوا هم أو ذووهم لهذه الممارسات والانتهاكات التي عادة ما تكون على خلفيات طائفية.
سيركز تنظيم «الدولة» جل جهده على استمرار التجنيد في صفوفه بشتى الوسائل بعد تشديد الإجراءات على وصول المقاتلين الأجانب إلى الساحتين السورية والعراقية والاتجاه للاعتماد على العنصر البشري المحلي بشكل أكبر.
والمتابع لسياسات تنظيم «الدولة» يدرك ان التمسك بالأرض لا يأتي في أولويات التنظيم قدر الحفاظ على العنصر البشري الذي يؤمن التنظيم ان مشروع إقامة «دولة الخلافة الإسلامية» يتوقف على وفرة هذا العنصر لديمومة عمله.
وسيكون لخسارة تنظيم «الدولة» المراكز الحضرية التي ما زالت خاضعة لسيطرته فرصة متاحة لتحرر المزيد من عناصره للتفرغ لمهام قتالية بدلا من الانشغال في إدارة المدن وتقديم الخدمات وتوفير الأمن في مدن سيطرته وعلى الحواجز الأمنية وفي مكاتب الحسبة وجباية الأموال والتعليم والرعاية الصحية وعشرات الأبواب الأخرى.
وفي كل الأحوال لا بد من الاعتراف بأن تنظيم «الدولة» استطاع خلال ثلاث سنوات من ظهوره الأخير فرض نفسه كأمر واقع وكتهديد حقيقي على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي خلاف غيره من التنظيمات، وسيكون من غير المنطقي التفكير بنهايته مع استمرار الخطاب الطائفي في المنطقة وموقف الدول الكبرى إلى جانب الأنظمة الاستبدادية ضد إرادة الشعوب بالتغيير وتنامي الوجود الأجنبي في بلدان المنطقة والتدخل في رسم مستقبل شعوبها.
رائد الحامد