انعدام الاستقرار ناجم عن ازدواجية المعايير

حجم الخط
0

بينما العالم الغربي يقترب من موسم عيد ميلاد المسيح عليه السلام، تبدو روح العدل والتسامح التي ميزت شخصيته المقدسة غائبة عن تعامل سياسيي «العالم الحر» مع حقائق الواقع. وغياب هذه الروح من عوامل التوتر في عالم اليوم، وانتشار التطرف وتنامي العنف والإرهاب والتعصب.
هذا الواقع يتأسس على الانتقائية والمعايير المزدوجة وتضليل الرأي العام والترويج لتبريرات واهية لدعم انظمة الاحتلال والاستبداد في المنطقة، ولذلك فهو واقع لا ينسجم مع قيم العدل التي ارادها الرب من جهة، والتي طالما طرح الفلاسفة والمفكرون أطرها عبر آلاف السنين. هذا العالم فيتظاهر بالاحتجاج ضد قرار الرئيس الأمريكي الاخير بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الاسرئيلي، وهو قرار يتعارض مع القرارات الدولية التي صدرت منذ قرار التقسيم في 1947 مرورا بكافة القرارات التي اعقبت الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على فلسطين واهلها. لكنه يتعاطى مع هذا الرئيس ويحصر انتقاداته بالتصريحات فحسب، بينما يستمر في التعاطي مع واشنطن وكأن شيئا لم يكن.
عالم اليوم يتظاهر بشجب السياسات الاسرائيلية، وينتقد الاحتلال، ويتظاهر بالتضامن مع الشعب الفلسطيني، ولكنه يتعامل مع كيان الاحتلال، ويتبادل معه العلاقات الدبلوماسية، ويستقبل وفوده وممثليه، ويرفض حتى الآن الاعتراف بحق شعب فلسطين في اقامة دولته المستقلة. وبفضل سياسات بعض الدول العربية، لم تتغير المواقف فحسب، بل حتى المصطلحات، فلم يعد الاحتلال «عدوا» ولم تعد هناك قضية فلسطينية عنوانها الاحتلال، بل تحولت القضية إلى «نزاع» اسرائيلي ـ فلسطيني. ولم يعد الساسة الاسرائيليون مجرمي حرب او محتلين او اعضاء في نظام احتلال غاشم، بل عبر عنهم بعض الساسة العرب بـ «الاصدقاء». هؤلاء الساسة يعتبرون الفلسطينيين «متطرفين» و «راديكاليين» و «مغامرين». ويتم التواصل بين هذه الانظمة وممثلي كيان الاحتلال، بينما تقاطع هذه الانظمة المجموعات الفلسطينية المناضلة، وتتنكر لمقاومة الاحتلال، وتقطع كافة علاقاتها مع قوى المقاومة. ينطبق هذا على دول الغرب، كما على دول المنطقة التي ما فتئت تسعى للهيمنة على الرأي العالم العربي والإسلامي وتطبع علاقاتها مع قوات الاحتلال.
هذا العالم يتوحد في الضغط على إيران بشأن ملفها النووي برغم انتمائها للوكالة الذرية للطاقة الدولية، ويتجاهل الكيان الاسرائيلي الذي يمتلك مشروعا نوويا عسكريا ولديه اكثر من 200 رأس نووية، ويرفض الارتباط بالوكالة الذرية ويرفض اي تفتيش لمنشأته النووية. بعض الزعماء العرب لم يعد يرى ان «اسرائيل» هي المشكلة الاساس في التاريخ العربي المعاصر، بل ان إيران هي المصدر الذي يهدد الامن والاستقرار في الخليج والمنطقة. هذا التغير في الرؤى والاولويات يعكس مدى ما حققه عالم اليوم من تراجع على صعيد المبادئ والقيم والعلاقات الدولية، وما تعاني منه دول النفط العربية اليوم من تخمة مالية عملاقة تتيح لاصغرها الفرصة للظهور بمظهر القوة غير المحدودة.
فدولة الامارات مثلا التي لا يتجاوز عدد سكانها الاصليين بعض مئات من الآلاف، تحتل اعرق دولة في الجزيرة العربية، وتضع يديها على ممتلكاتها وجزرها، من سوقطرة إلى ميناء عدن وتسعى لاحتلال ميناء الحديدة. هذا البلد الصغير يسيطر على موانئ عديدة عند باب المندب لضمان سلامة الملاحة المتجهة نحو «اسرائيل» بشكل خاص، ومن هذه الموانئ اليمنية عدن ومخا والمكلا وثمة سعي للسيطرة على ميناء الحديدة. كما تسيطر على موانئ بربرة وجيبوتي وعصب على الساحل الافريقي بعد ان دخلت في عقود لاستئجارها مددا طويلة. هذه السيطرة لا يعتبرها الغربيون «تدخلا» او «توسعا»، بل يدعمون ذلك ويتعاملون مع الامارات وكأن شيئا لم يكن. اما الحديث الحقوقي عن السجناء السياسيين مثل احمد منصور ومحمد الركن وسواهما فمحدود وخجول ومحصور بالمنظمات الحقوقية التي لا تملك شيئا سوى اصدار البيانات.
عالم اليوم يصمت عمليا على الاعتداءات التي يشنها الطيران الاسرائيلي على غزة، لكنه يبرر لها ذلك حين تطلق احدى مجموعات المقاومة الفلسطينة قذيفة باتجاه ذلك الكيان، ويعتبر ذلك مبررا لحروب غير متكافئة تشنها «اسرائيل».
ويتواصل الصمت حتى عندما تتوسع دائرة النفوذ الاسرائيلي في هذه البلدان ويؤثر على حرياتها العامة خصوصا حرية التعبير، فمن ينتقد السياسات الاسرائيلية يعتبر «معاديا للسامية» ومن يتعاطف مع الفلسطينيين يصنف في خانة «التطرف». العالم الحر يبرر للحرب التي يشنها التحالف الذي تقوده السعودية على اليمن، ويصمت عن استهداف المدارس والمستشفيات والاسواق وصالات الاجتماعات والزواج، ويأخذ على بعض مكونات اليمن وفي مقدمتها جماعة انصار الله تصديها لما تعتبره عدوانا على بلدها. هذا العالم يتجاهل تقريرا صدر الاسبوع الماضي بان «اسلحة قدمتها الولايات المتحدة وأمريكا سقطت في ايدي الدولة الإسلامية». وقالت مؤسسة أبحاث التسلح في الصراعات (كار) إن تنظيم الدولة الإسلامية امتلك اسلحة « قدمتها في الأساس دول أخرى لا سيما الولايات المتحدة والسعودية لجماعات المعارضة السورية التي تقاتل الرئيس السوري بشار الأسد». فهنا يصبح دعم الإرهاب مقبولا، ولا تتخذ اجراءات بحق من يزود الإرهابيين بالسلاح والعتاد. ولكن هذا العالم قادر على تحريك الامم المتحدة كلها للتحقيق حول مصدر صاروخ اطلقته قوات يمنية على مطار الملك خالد في السعودية. ويدعي الأمريكيون، على لسان السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي، أن طهران هي مصدر ذلك الصاروخ.
وقالت في مؤتمر صحافي في قاعدة عسكرية على مشارف واشنطن «هذه (الأسلحة) إيرانية الصنع.. وأرسلتها إيران.. ومنحتها إيران». وشملت تلك الأدلة بقايا متفحمة قالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إنها من صواريخ باليستية قصيرة المدى إيرانية الصنع أطلقت من اليمن في الرابع من نوفمبر /تشرين الثاني على مطار الملك خالد الدولي خارج العاصمة السعودية الرياض. لكنهم يتجاهلون الاسلحة الهائلة التي زودوا اليمن بها خلال الثلاثين شهرا الماضية.
في عالم تمارس قواه الكبرى سياسات «التذاكي» على شعوبها والآخرين، يتم تدريجيا افراغ المبادئ والقيم والاخلاق من محتواها، ليصبح محكوما بالقتلة والسفاحين وشركات السلاح والمؤسسات المتعددة الجنسية. هذا العالم يمارس سياسات ازدواحية المعايير ليس مع الشعوب الاخرى فحسب بل حتى على المواطنين الذين يحكمهم. ولتكريس مقولة الحرية والاهتمام الانساني يسمح للمنظمات الحقوقية بفضح الانتهاكات التي تمارسها انظمة القمع المتحالفة مع العالم الحر، ولكنها تغض الطرف عن تلك التقارير وتواصل سياساتها وعلاقاتها مع «الانظمة الصديقة» بشكل طبيعي، ولا تمثل سياسات الاضطهاد التي تمارسها تلك الانظمة اي قلق حقيقي لديها. في هذا العالم تتوسع الفجوة بين المبادئ والممارسة، وتروج وسائل الاعلام مقولات «المصلحة» و«الامن» و«الواقعية» لتبرير الصمت على الجرائم وغض الطرف عن الحروب، وتجاهل استغاثات ضحايا العدوان. وعندما تؤكد المؤسسات الخيرية الدولية انتشار الاوبئة في بلد محاصر منذ ثلاثة اعوام وآخرها «الدفتريا» تنبري وسائل الاعلام، تحت ضغط الخجل والحرج، لبث خبر صغير هنا وآخر هناك، حول ذلك، ولكن مع تجاهل مشاهد الدمار المادي والبشري واستغاثات المظلومين الذين تسحقهم كل يوم القنابل والصواريخ التي تزود بها دول العدوان في اطار «ضمان مصالح المواطنين وتوفير الوظائف للآلاف منهم». ففي العالم الحر تستخدم مقولة توفير الوظائف لعقد صفقات كثيرا ما ادت لقتل الابرياء.
الموازين هنا مختلفة جدا، فلا مكان للعقل او الانسانية في الحسابات السياسية والاقتصادية، بل ان تغليب ما يراه السياسيون «مصلحة» على الاخلاق والقيم والمبادئ هو ما يمثل «الاعتدال» و«الواقعية». هذه السياسة مرفوضة دينا ومنطقا. فالمبدأ القرآني يؤكد ضرورة العمل بمقتضى القول، ويمنع ان تتحول المبادئ والقيم إلى شعارات جوفاء: يا ايها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون». هذه المبادئ لا يلغيها او يقلل من شأنها ممارسات الاشخاص وان كانوا «إسلاميين»، سواء كانوا في السلطة ام في المنظمات السياسية او حتى الإرهابية.
عالم اليوم يفتقر للقيم الانسانية الحقيقية خصوصا الصدق والشفافية والتوازن والاخلاق. وكلها قيم لا تتوفر إلا ضمن اطر ضيقة، اما في عالم السياسة فتحظى بوجود نسبي وليس مطلقا. لذلك تستمر الازمات والخلافات والحروب. وكما جرت العادة في المجتمع الانساني، فان آثارها السلبية تطال عامة الناس وليس النخب السياسية واصحاب الشأن. وهذا هو الظلم عينه. من هنا فليس خارجا عن المنطق التفكير في احتضان القيم الدينية في العالم السياسي.

٭ كاتب بحريني

انعدام الاستقرار ناجم عن ازدواجية المعايير

د. سعيد الشهابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية