رلى موفق: كأنه كان ينقص لبنان أن تُضاف إلى أزماته المتعددة أزمة جديدة كانت السلطة الحاكمة في غنى عنها في لحظة احتقان يتنامى وشروخات داخلية تكبرعلى خلفية استعار الانقسامات الطائفية والمذهبية في المنطقة والحروب الدائرة فيها، والتي تطال تداعياتها لبنان بشكل أو بآخر، وترخي بثقلها على المشهد اللبناني الذي يعتريه حال من الغليان الاجتماعي والاقتصادي في موازاة حال التأزم السياسي الصامت والمساكنة القائمة.
عنوان الأزمة الراهنة ناشئ عن المطالبة بـ«العطلة يوم الجمعة». ففي لبنان، العطلة الرسمية الأسبوعبة هي يوم الأحد، فيما دوام العمل في المؤسسات الحكومية هو 32 ساعة أسبوعياً موزعة على ستة أيام، بحيث تحدد ساعات العمل من الثامنة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر من الإثنين إلى الخميس، وحتى الواحدة يوم السبت، مع استثناء إنتهاء الدوام الرسمي يوم الجمعة عند الحادية عشرة قبل الظهر، لتأمين حرية ممارسة الشعائر الدينية للمسلمين، بما يتيح لهم تأدية صلاة يوم الجمعة في المساجد بيسر وراحة.
ضرورات العمل
تعوّد اللبنانيون على هذا النمط من الحياة ولاسيما موظفو الدولة وهم الفئة الأكبر من الموظفين. غير أن القطاع الخاص الذي يعتبر الركيزة الأساسية للاقتصاد اللبناني يمتلك حرية لجهة اعتماد دوام العمل الذي يناسبه، شرط الالتزام بساعات العمل التي يحددها القانون بـ 48 ساعة في الأسبوع في معظم القطاعات الإنتاجية وبالعطلة يوم الأحد كعطلة رسمية مع مراعاة ما تقتضيه ضرورات العمل وطبيعته، وتحديد بدل الساعات الإضافية والعمل في العطل والأعياد. بالتأكيد، لا يعني هذا أن المؤسسات الخاصة تلتزم بالقانون في دولة لا تتسم بقوة تطبيق القانون بقدر ما تنحو نحو التفلت والفوضى وتجاوز قانون العمل مع تعمّق الأزمة الاقتصادية واضطرار الشركات والمؤسسات إلى الاستغناء عن خدمات الكثير من موظفيها أو تخييرهم بين البقاء بشروط الموسسة أو الاستقالة.
النقاش هنا لا يتناول مدى العدالة في قانون العمل وما إلى ذلك. المسألة هنا تتعلق بالأزمة التي خلّفتها الحكومة ومجلس النواب، وهي تُعبّر عن التسرع والاستسهلال وقصر النظر في مقاربة الملفات ومعالجتها، دون التمحيص ملياً عند المحاذير التي يمكن أن تنشئ عن الخطوات والقرارات التي يتم اتخاذها. ففيما كانت عين الحكومة ومجلس النواب على كيفية الخروج من مأزق سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام العالق منذ سنوات نظراً إلى تدني رواتب الموظفين فيه، وهو استحقاق يتم تأجيله من حكومة إلى أخرى، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأمور ووصولها إلى حال من الاضطراب ولاسيما في قطاع التعليم الرسمي مع بداية كل عام دراسي، جرى إقرار سلسلة الرتب والرواتب بما سمي إصلاحات إدارية تضمنت زيادة الإنتاجية عبر رفع ساعات العمل خلال أيام الأسبوع إلى 35 ساعة وتحديد العطلة الأسبوعية يومي السبت والأحد.
نظرة الحكومة ومجلس النواب في مقاربة هذا الموضوع أغفلت بشكل تام حساسية «يوم الجمعة» بالنسبة إلى جزء من الرأي العام الإسلامي ومرجعياته الدينية. هي حددت ساعتين يوم الجمعة لصلاة المسلمين على أن يعودوا إلى مراكز عملهم بعد ممارستهم شعيرتهم الدينية. كان هاجسها أن ترفع ساعات الإنتاج من جهة وتعمل على تقليل أيام العمل من ستة إلى خمسة أيام من أجل تقليص أعباء الموازنة عبر تخفيض أيام بدل النقل. جاءت المسألة بالنسبة إلى السلطة حسابية محض.
مطلب قديم
تغاظت الدولة عن واقع أن التعطيل يوم الجمعة هو مطلب قديم كانت تطرحه المرجعيات الدينية الإسلامية كلما لاحت الفرصة في الأفق مع كل حديث عن إصلاح إداري بعد نشوء الدولة اللبنانية، ذلك أنه ما قبل نشوء دولة لبنان الكبير في 1920 كانت العطلة الرسمية يوم الجمعة، أيام العهد الأموي إلى العباسي وإلى زمن السلطنة العثمانية. ويروي رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام القاضي الشيخ خلدون عريمط في هذا الإطار أنه «مع الإنتداب الفرنسي- البريطاني على لبنان جرى استبدال يوم العطلة الرسمية من الجمعة إلى الأحد، بينما كان يوم الأحد قبل ذلك، عطلة خاصة بالمسيحيين باعتباره اليوم الذي يمارسون فيه شعائرهم الدينية».
اعترضت آنذاك المرجعيات الدينية الإسلامية وطالبت أن تكون العطلة يومي الجمعة والأحد. وحين طُرحت أيام عهد الرئيس سليمان فرنجية في بداية السبعينيات مسألة الإصلاحات الإدارية في حكومة الرئيس صائب سلام، جرى الإتجاه إلى اعتماد العطلة الرسمية يومي السبت والأحد، فعادت المطالبات من جديد، فكانت التسوية يومها بالإبقاء على عطلة الأحد وإقفال المؤسسات يوم الجمعة عند الحادية عشرة. يقول الشيخ عريمط أن «مفتي الجمهورية يومها الشيخ حسن خالد لم يعترض ولم يعلن موافقته العلنية على هذا الإجراء». من يتابعون تلك المرحلة يدركون أنها كانت تسوية بموافقة المرجعية الإسلامية، لكنها تركت الباب مفتوحاً لإعادة إحياء هذا المطلب.
الهدف وراء المطالبين يتعلق في جانب أساسي منه بتحقيق المساواة بين المسلمين والمسيحيين في بلد «العيش المشترك» لجهة ممارسة حرية معتقداتهم وشعائرهم الدينية، فما دامت هناك عطلة رسمية يوم الأحد، يُنظر إليها من زاوية مراعاتها المسيحيين لتأمين ممارسة شعائرهم الدينية براحة، حيث يتوجهون فيه إلى الكنائس وفق طقوسهم، فإنه يجب تحديد يوم الجمعة كيوم عطلة مراعاة للمسلمين لتأمين ممارسة شعائرهم الدينية براحة مماثلة. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، فإن الهدف هو في جانب منه سياسي بامتياز، إذ يأتي للمطالبة بتحقيق المساواة في التعبير عن هوية لبنان، انطلاقاً من الاعتقاد السائد أن تحديد العطلة يوم الأحد جاء في ظل المنحى لإبراز هوية ذات بُعْد مسيحي للبنان. وإذا كان هذا الأمر يتماهى مع العادات المجتمعية للعالم الغربي والتأثر بطبيعة الحياة في دول الاستعمار، فتلك أيضاً مجتمعات مسيحية عموماً.
سيطرة المسيحيين
كان ثمة من يعزو عدم الأخذ بمطلب التعطيل يوم الجمعة سابقاً إلى سيطرة المسيحيين على الحكم ومفاصل الدولة في لبنان. الأهمية اليوم تكمن في أن الجدل القائم لا ينطلق من احتجاج على هيمنة ذات طابع مسيحي على السلطة القائمة، بمعنى أن من يطرح هذا الموضوع لا يثيره في وجه «الشريك المسيحي» الذي لم تعد له السطوة في البلاد منذ عقود. الأمر اليوم مطروح في وجه حكومة يرأسها الزعيم الأول للسنة في لبنان وهي حكومة سعد الحريري، وفي مجلس نيابي يرأسه زعيم شيعي قوي يجسده نبيه بري أحد جناحي «الثنائية الشيعية» صاحبة السطوة الفعلية في البلاد، ويحظى الحريري وحلفاؤه بشكل مبدئي بأكثرية نيابية في البرلمان.
ما فجّر الموضوع هو التوقيت الخاطئ للسلطة. وما زاد الطين بلة عدم ترك الدوام يوم الجمعة كما كان الحال عليه سابقاً، بل جرى إضافة ساعات عمل إليه مع إعطاء المسلمين استراحة ساعتين لتأدية الصلاة. هذه القراءة يتشارك فيها كثير من المراقبين ومن السياسيين ورجال دين سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين. التوقيت الخاطئ يكمن في أن لبنان يقف على فالق الانقسام الطائفي والمذهبي من جهة ويعيش من جهة ثانية احتقاناً شعبياً نتيجة الأزمة الاقتصادية، فجاء هذا القرار ليشكل عامل تنفيس للاحتقان، فبدل أن يتم التعبير عن السخط على سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لامست المسألة «الانفجار الطائفي» في حين لم يكن أحد في وارد طرح أو مناقشة أمور دينية. ولا شك أنه جرى توظيف المسألة في إطار المزايدات السياسية بين أبناء الجماعة الواحدة.
لكن ثمة طيفاً كبيراً من اللبنانيين المسلمين قبل المسيحيين ينظرون إلى المسألة من زاوية لا تمت بصلة إلى أي بعد ديني. هؤلاء يتوقون إلى الحصول على عطلة نهاية أسبوع فعلية شأنهم شأن غيرهم من الدول التي تحظى بعطلة يومين متتالين في القطاع العام. ففي لبنان، ونتيجة تركيبته الطائفية وتعقيداتها، كان الأمر معلقاً سابقاً وتحيط به المحاذير.
مسألة حساسة بتوقيتها
ما يهم هذه الشريحة الواسعة من اللبنانيين أن لا تؤول التسويات إلى ضرب عطلة نهاية الأسبوع بحيث يتم إقرارها الجمعة والأحد. فذلك يعني عملياً أنهم ما زالوا عالقين حيث هم. صحيح أن السلطة التشريعية ومعها الحكومة قد طرقا مسألة حساسة بتوقيتها، لكن عطلة نهاية الأسبوع «الويك ايند» الطويل هو «حلم» كثيرين. حلم أبناء المناطق والأطراف الذين يعيشون في المدينة، والذين بات بإمكانهم اليوم أن يقصدوا قراهم بانتظام مع يومين إجازة. بات بإمكان اللبنانيين أن يخططوا لقضاء نهاية الأسبوع سواء في لبنان أو في الدول القريبة. هم كانوا دائما يعطون مثال كيف أن من يعمل في الخليج أو في الدول المحيطة بلبنان يأتي إليه لقضاء عطلته الأسبوعية، ومن ثم يعود.
يقول أحد الباحثين في الفكر الإسلامي أنه حين سئل عن موقفه رد أنه لا يحب كثيراً أن يعمل يوم السبت. مقصد كلامه أنه لم يقل أنه يفضل ألاّ يٌعطّل الجمعة، نظراً إلى إدراكه حساسية الموضوع عموماً وحال «الهيجان والاستغلال السياسي والشعبوي» الحاصل.
هناك إدراك سياسي أن الشارع الإسلامي منقسم حول عطلة يوم الجمعة. في الأساس، البيئات التي يطغى عليها الطابع الإسلامي، تقفل مدارسها على سبيل المثال يوم الجمعة والأحد. بالطبع، الإقفال في وقت صلاة الجمعة أمر مسلّم به لدى المؤمنين بممارسة الشعائر الدينية والإلتزام بها. وهناك من يراعي ذلك في تلك البيئات، حتى ولو لم يكن ملتزماً.
اليوم، تتجه الحلول نحو إعادة الإبقاء على دوام يوم الجمعة حتى الساعة الحادية عشرة لجميع الموظفين، بمعنى إقفال المؤسسات العامة. هذا من شأنه أن يعيد تبريد الأجواء، ويحافظ على خصوصية هذا اليوم، ويعطي تلك الدلالة التي يريد المسلمون أن يجسدوها عن هوية لبنان.
هو المخرج الذي يجري الحديث عنه، والذي قدم نائب كتلة الحريري النيابية عمار حوري اقتراح قانون في شأنه. أغلب الظن أن الاقتراح هو انعكاس لتسوية جرت مع دار الفتوى. تصدى بري والحريري لمحاولات النيل منهما، وقالا للمنتقدين: «لا أحد يزايد على إسلاميتنا». المهم أن تحتوي الحلول إي محاولة لتحريك الشارع. فالأخصام السياسيون للحريري ولاسيما في المناطق السنية المحافظة قد يذهبون إلى استخدام هذه الورقة مجددأً حين سيتم طرحها أمام مجلس النواب قريباً. فهناك إلى اقتراح حوري اقتراحان مقدمان من نائب الجماعة الإسلامية عماد الحوت والنائب عن عكار الشمالية خالد الضاهر الذي كان بدوره ينتمي إلى الجماعة الإسلامية. والاقتراحان يطالبان باعتماد الجمعة يوم عطلة أسوة بيوم الأحد.
استحقاق طرح هذا الموضوع على مجلس النواب لا مفر منه، لأن الاقتراحات جاءت في صيغة معجلة مكررة، أي انه لا بد من طرحها في أول جلسة تشريعية. وهو أمر يرتقب أن يتم خلال الأسابيع المقبلة إذا انتهى المجلس من الموازنة التي يحدد القانون أن يبدأ العقد العادي في تشرين الأول/اكتوبر بدراستها وإقرارها قبل أي أمر أخر.
الاتجاه إلى اعتبار أن «يوم الجمعة يوم ديني مقدس» وفق التوصيف الذي جاء في اقتراح قانون الضاهر لا يبدو أنه يلقى صدى كبيراً. هي مسألة يتصدى لها العلماء في الفقه، وتحتاج إلى إبحار في العلوم الدينية. الأجواء السائدة على الساحة اللبنانية لا تذهب في هذا المنحى. كثر من الفقهاء المسلمين يتسلحون بالآية القرآنية في سورة الجمعة في القرآن الكريم التي تحث على العمل بعد صلاة الجمعة لإبتغاء الرزق، إذ جاء فيها « فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».
لا يتجه المزاج العام في البلاد إلى الإقفال رسمياً يوم الجمعة. هو قرار في رأي اقتصاديين ستنجم عنه تداعيات سلبية على القطاع الاقتصادي وسينعكس ذلك بالتأكيد على حركة المصارف وارتباطها بعمل البورصات العالمية وعلى الحركة التجارية، فيما أن الأمر مختلف يوم السبت، حيث تتوقف البورصات العالمية عن العمل. بالطبع هناك من يعطي الدول الإسلامية التي تعطل يوم الجمعة مثالاً لدحض هذه المقولة.
هل يمر القطوع على خير؟ هذا ما هو متوقع، أو هو الاحتمال الأكثر ترجيحاً. قد لا تصدر مواقف من المرجعيات الدينية الإسلامية مرحبة بقرار العودة إلى وقف العمل في المؤسسات العامة يوم الجمعة عند الحادية عشرة قبل موعد الصلاة ، ما دام سقف المطالبات هو الإقفال التام، لكنها لن تُجهر معارضتها لعدم الإقفال التام، إذا صحت التسريبات أن التوافق قد حصل على هذا المخرج.
قد تحصل مفاجآت غير متوقعة. المهم لدى الطيف الواسع من اللبنانيين، ولاسيما في القطاع العام أن يتحقق حلم عطلة نهاية الأسبوع. «ويك ايند» يتجسد في يومين متتالين أسوة بما هو متعارف عليه في دول العالم. هم بلا شك يريدون «لبنان الرسالة ونموذج العيش المشترك» لكنهم أيضاً يحبون الحياة ويريدون أن يتمتعوا بها، وهذا لا شأن له بالتزامهم الديني.
أمراء الحرب والزعماء الطائفيين في لبنان لا زالوا يكبلون كل ما هو منتج وفاعل من غير ماشيتهم، ويقومون بمحاربة كل من يطالب بالتغيير. لقد شرعوا سلسلة رواتب النهب مما تبقى من أموال الشعب اللبناني لزيادة امتيازات ومخصصات حشرات وقوارض القطاع العام اللصوص الفاسدين. لقد اتفقوا فيما بينهم هؤلاء الزعماء الحثالة من سنة وشيعة ودروز وموارنة لمص دماء كل من لا ينتمي لعصاباتهم النتنة ويتغطون تارة بالدِّين وتارة بالطائفة للمحافظة على ولزيادة سرقاتهم. وها هم المشايخ الوسخة الان تتغطى بغطاء يوم الجمعة دينيا لمزيد من مكاسبهم المشروعة. المشكلة ان القطاع الحكومي اللبناني غير منتج ولا دور له الا ابتزاز القطاع الخاص. المضحك المبكي انه لا فرق لهولاء اذا كانت العطلة الجمعة او الثلاثاء او الأحد، فهم غير منتجون طيلة ايام الأسبوع.
اذا أضفنا (بعض )العلمانية إلى (بعض) العلمانية الموجودة في لبنان .لكانت الأمور تحسنت (بعض)الشيء.هذه الفكرة . اقترحها الرءيس بري منذ أكثر من عقدين .وحاربها بقوة تيار الحريري . بحجة حماية المسلمين في بلاد الأرز. لكن هذا التيار الازرق هو أفضل حليف لليمين اللبناني المتطرف .الذي ما زال يقول .أمتنا هي لبنان .وامنا الحنون هي فرنسا.