انقسمت الإشتراكية الديمقراطية الألمانية (ثم الأوروبية بشكل عام) في نهاية القرن التاسع عشر، على خلفية «إصلاح أم ثورة». خط ينادي بالتغيير التدريجيّ مراهناً على أنّ الإقتراع العام كفيل بتحويل الدولة شيئاً فشيئاً إلى كيان مكرّس وحام للمصالح العامة، وفي صالح العدد الأكبر من الناس. وخط يساجل ضدّ هذه «الإصلاحوية» معتبراً أنّ الإنتخابات على أنواعها، والمعارك المطلبية بمختلف أشكالها، لا يمكن أن تحقق هذه الغاية، وأنّ التغيير الجذري لأوضاع المجتمع لا يتأمن بالتغيير التدريجي، بل يظل في حاجة إلى «ثورة».
طبعاً، «الثورة» التي يدعو إليها الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون تنتمي إلى عالم مختلف تماماً عن هذا «الجدال القديم» بين إصلاحيين وثوريين. «ثورة» هي العنوان الذي اختاره لكتابه الصادر أواخر العام الماضي (تشرين الثاني 2016)، والمدشن لحملته بمقال شخصي وفكري وسياسي في آن. شغل الكتاب موقعاً حيوياً في حملته لكسب السباق الرئاسي، المختلفة تماماً عن كل حملة شهدتها الرئاسيات الفرنسية منذ 1965 (أول مرة تم فيها انتخاب الرئيس بالاقتراع العام) إلى اليوم. يطرح ماكرون نفسه من خارج ثنائية «يمين ويسار»، ويعتبرها فقدت مضمونها بعد أن حولتها العقود الأخيرة إلى تداول عبثي بين «جهازين» حزبيين. فالانقسام بين يمين ويسار كان له طعم يوم دار حول الموقف من الكنيسة والعلمانية، أو يوم كانت له خلفية طبقية إجتماعية، في حين أنّه صار اعتباطياً اليوم على ما يراه، لأن القضايا المطروحة، من ارهاب وهجرة واتحاد اوروبي وخلافه، ينقسم حولها معسكر اليمين من داخله، ومعسكر اليسار من داخله. بالتالي، كي يحافظ كل معسكر على وحدته الحزبية الجهازية في الانتخابات عليه أن يستر تناقضاته الداخلية بكم من التلفيق، وهذا يحولها إلى «أحزاب ميتة» مرتعدة من مواجهة الواقع، وإلى «طبقة سياسية وإعلامية» راكدة، بالوجوه المعادة والخطب المكررة.
بيد أن ماكرون الذي يقدّم نفسه كـ «تقدميّ» من خارج ثنائية «يمين ويسار» التي يعتبرها منتهية الصلاحية، يستعيد في نفس الوقت لفظة «ثورة»، لا بل يستعيدها، مرة جديدة، ضدّ «الإصلاحوية». يعتبر ماكرون أنّه قد جرى ابتذال مفهوم الإصلاح في فرنسا، وأن كثرة الإصلاحات مثل قلتها، وأنّ الناس قد تعبت أيضاً من المرشحين الرئاسيين الذين يكثرون من دعوات إصلاح النظام الدستوري والسياسي الفرنسي. ينتقد هذه الطفرة من الإصلاحات ويعتبر جزءا من المشكلة. فمن غير الصحي أن يكون قانون العمل مثلا عدل خمسين مرة منذ العام 2000، ويقول انه ينبغي عدم ادخال تعديل على احدى الضرائب أكثر من مرة في ولاية رئاسية واحدة، وعندما يجري سنّ إصلاح في قطاع معين ينبغي اعطاءه وقتاً لتقييمه. هذا الولع بالحلول الإدارية للمشاكل، وتقديم مشاريع إصلاحية لا تعطي الوقت الكافي لتقييمها، هو أمر يتواطأ مع البلادة والخمول. وهكذا يأسف ماكرون لكم الوقت التي تبذله الشركات لمحاولة فهم تعديلات القوانين التي لا تتوقف في بلده، ويعتبر هذه الإصلاحات الإدارية والقانونية المتواصلة معيقة لفهم واستيعاب حركية الاقتصاد المعرفي والرقميّ وآفاقه، ومن مسؤولية السلطات العامة أن لا تكون هي أيضاً مصدراً للقلق والشلل. «الثورة» عند ماكرون تساجل ضد «الإصلاح» إذاً، ولو كان في سياق مختلف تماماً عن جدال «إصلاح أم ثورة» في الإشتراكية الأوروبية نهاية القرن التاسع عشر.
يعرّف ماكرون ثورته هذه بأنها «ثورة ديمقراطية». فلئن ساجل ضده أخصامه في المعركة الرئاسية بأنه يمثل مصالح المؤسسة الحاكمة المزمنة (الاستبلشمنت) فهو لا يصنّف نفسه كذلك. يصنّف نفسه كنتاج نظام الكفاءات الفرنسي الذي جعله يصعد السلّم العلمي والمهني بسرعة، ويتولى وظائف عامة نتيجة لذلك، ثم يستقيل منها عندما يعتبر أنه مختلف مع الطاقم الحاكم، وينتقد ماكرون هنا كيف تمت معالجة الوضع بعد هجمات خريف 2015 الارهابية، اذ كان المطلوب حالة طوارىء اقتصادية اجتماعية، بدلا من الغوص في جدل عقيم حول سحب الجنسية الفرنسية.
لا يعتبر ماكرون في كتابه السياسة مهنة منظمة بقواعد، بحيث عليك ان تقضي حياة كاملة متدرجاً في السلك للوصول الى المناصب العليا. نموذجه النقيض للطبقة السياسية هو كتلة الـ600 ألف عضو مجلس بلدي ومنتخب محلي، ومعظمهم ينهض بأمور دائرته من دون مقابل. وبخلاف النظرة التي أضحت نمطية والتي تجعل المرشحون للرئاسة يتباهون ببرامجهم المفصلة (بلغ حجم برنامج أحد المرشحين في الرئاسيات الفرنسية ألف صفحة)، يستهل ماكرون كتابه بنقد الحاجة إلى هذا النوع من البرامج، ويعتبرها بمثابة «كاتالوغات الآمال المحبطة»، وأنّ ما يطرحه للقارىء هو «رؤية وسرد وعزم».
لا يخلو الكتاب من نفحة شعبوية ضد «حكومات اليمين واليسار المتعاقبة». لكنها نفحة شعبوية تتحرك ضمن مفارقة يجيد تصويرها الكاتب قبل أن يصبح رئيساً: مفارقة نظام فرنسي للأشياء تكون فيه الشكوى من الوضع القائم متواطئة مع استمرار هذا الوضع على ما هو عليه. هو نظام حوّل التنديد به إلى وظيفة داخله. ما هو العمق الاقتصادي المالي لهذا؟ جنوح الحكومات المتعاقبة لمداواة أزمات النمو الاقتصادي بالإسراف في الإنفاق العام، واعطاء مساعدات من دون تمويلها، بل تحميلها للآجيال الآتية. «الكرم» في المساعدات الاجتماعية من دون مواجهة اسباب البطالة الواسعة، و»الكرم» في المساعدات من أجل السكن من دون بناء ما يكفي من مساكن، هذا ما يعتبره الكتاب انفاقاً تبديدياً، ويدعو الى مناقضته بـ»الإنفاق الإنتاجي».
ينتقد ماكرون كلا من النظرة «الكولبرتية» (الدولة توجه وتقرر وتنفذ كل شيء) و»الليبرالية» (الايمان بسوق لا يعرف الفشل، وبأن أفضل سياسة صناعية أن لا تكون هناك سياسة للصناعة). فهناك قطاعات لا يمكن تركها للسوق وحده (التربية والصحة وانتاج الطاقة المستدامة)، لكن هناك قطاعات لا بد من فتحها على التنافس الحر، بنظام ضريبي يكافئ من يجازف محاولاً الابتكار والتجديد، ويكافئ من يسعى للثراء بالموهبة والابداع والعمل، وليس بالريع والاستثمار العقاري. بالتوازي، هو يعتبر ان العقد الاجتماعي لعام 1945، كما بلوره «المجلس الوطني للمقاومة»، صار يحتاج الى مراجعة. فهذا العقد يحصر الحماية الاجتماعية بمن له وظيفة وأجر ثابت، ولم يعد صالحا في مرحلة «ما بعد الأجر».
غير بعيد عن هذا، يدعو الكتاب للتمثل بالتجربة الألمانية، ويأسف كي تخلفت فرنسا قبل عشرين عاماً عن تطوير الإنسان الآلي، خوفاً على اليد العاملة، فكانت النتيجة خمسة اضعاف من الروبوتات في المصانع الألمانية، التي لم تتعرض لنفس درجة التراجع كما حصل مع هجرة المصانع في فرنسا باتجاه اوروبا الشرقية، كما ان البطالة منخفضة في المانيا الى درجة النصف عنها في فرنسا.
البعد الآخر في الكتاب هو التشديد في كل فصل على وطنية رسالية فرنسية. يعرفها ماكرون بأنها «جمهورية» وان كان لا يعتبر ان كل ما هو جمهوري جيد، وكل ما ليس جمهوري سيئا. يعرف الجمهورية كمشروع تحرر جماعي. وفي مقابل تصنيفه لأعداء الجمهورية (اليمين المتطرف، والاسلاميون الجذريون) فهو يشدّد على أنّ هذه الوطنية الجمهورية لا يمكن ان تكون انطوائية، لأن طموحها الى الكونية هو طموح عضوي، داخلي، في طريقة نظرتها لنفسها، منذ قيامها.
يكثر الكاتب من استخدام عبارات من قبيل «لنكن صريحين» في معظم صفحات الكتاب. منها مثلا، انه اذا كان كل دين عرضة للأصولية، فان قلب النقاش اليوم يتعلق بالإسلام، وأنّه لم يحصل بالنسبة لمسلمي فرنسا ما حصل مع يهودها، فاليهودية الفرنسية انبنت على احترام وحب الجمهورية كما يقول، والمطلوب تمكين المسلمين الفرنسيين من محاكاة نموذج اليهودية الفرنسية اذا. بتأمين سبل تمثيلهم بشكل أفضل، بتمكينهم من ممارسة شعائرهم بكرامة وحرية، لكن ايضاً بـ»تحريرهم من قيود علاقاتهم ببلدان أجنبية»، واشتراط احترام المبادئ الجمهورية قبل افتتاح دار عبادة، وطلب تفسيرات وكشف حسابات على الدوام، مع حظر منظمات سلفية متطرفة. أما في موضوع الهجرة، فهو يطرح صيغة: تسريع النظر في طلبات اللجوء وتفضيل حصول ذلك في أقرب منطقة ممكنة عن مناطق النزاع حرصاً على المهاجرين من التهلكة في الصحراء أو الغرق في البحر، لكن في المقابل رد من يرفض طلبه الى الحدود. يساجل هنا ضد سياسة تشريع الأبواب أمام الهجرة غير الشرعية، ثم ابتزازها بقوننة أوضاعها بالقطارة والتسويف. اللافت أيضاً أن ماكرون يدرج اللجوء السوري ضمن طلائع الهجرات المناخية، مذكراً بأن سوريا عاشت فترة جفاف قاسية في السنوات الخمس السابقة على نشوب النزاع فيها.
أما في الفصل المتعلق في السياسة الخارجية، فيخالف الكتاب كثيراً من الانطباعات العربية السهلة المحتفية بماكرون. يشدد على ان اسرائيل يجب ان «تبقى حليفتنا الديبلوماسية والاقتصادية» وانها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط وينبغي «السهر على حمايتها». يدعو لمساعدة ايران على انفتاحها، مع بذل الجهد كي تفهم انه يمكنها ان تصير قوة عظمى للمستقبل، شرط تخليها عن مشروع القنبلة الذرية. قوة اقتصادية؟ بل أيضاً قوة بنفوذها، ودورها في صنع السلام. لا يكتفي ماكرون بانتقاد جنوح بوش الإبن أو دونالد ترامب، بل ينتقد سياسات باراك اوباما في الشرق الأوسط، المعتكفة عن التدخل، وان كان يظل يطالب بأن يندرج كل تدخل غربي تحت يافطة الأمم المتحدة. وطبعاً، لن يسرّ «الماكرونيون العرب» – على الموضة الآن – حين يقرأون بأنه يعيب على ولاية فرنسوا اولاند أنها لم تأخذ موقفاً حاسماً الى جانب اسرائيل في موضوع الأونيسكو، ضد القرار الذي أقر بالطابع الإسلامي للحرم القدسي، اذ كان المطلوب بحسب كتاب ماكرون أن يكون الحرم «لكل الديانات»..
في «ثورة» ماكرون هذه، الكثير من الأفكار الحيوية.. والكثير أيضاً من الديزنيلاند!
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة