الـ(ترويكا) وكما هو معلوم كلمة روسية تعني الثلاثي، وجذر الكلمة متأت من العربة الخفيفة والسريعة التي كانت تستخدم لنقل البريد والأوامر الحكومية السريعة، التي تجرها ثلاثة احصنة تربط جنبا إلى جنب.
أما في السياسة فقد باتت الائتلافات الثلاثية تعرف عادة بالترويكا السياسية، كما حصل في تونس وترويكتها الشهيرة المكونة من الائتلاف الثلاثي الذي حكم تونس في الفترة الانتقالية، وفي الاقتصاد هنالك الترويكا الاوروبية المتمثلة بثلاث مؤسسات مالية دولية تعنى بالحلول الاقتصادية العالمية وهي، صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي.
اذن عندما نقول ترويكا فنحن ازاء تشكيلة ثلاثية، وهكذا كان حال الوضع السياسي العراقي إبان تصاعد التوتر بين المجتمع الدولي ونظام صدام حسين على خلفية عدم التزامه بضوابط قرارات مجلس الامن المفروضة على العراق، بعد غزو الكويت، وعمل إدارة الرئيس الاسبق جورج بوش الابن للاطاحة بهذا النظام لعدة اسباب لا مجال لذكرها هنا، وقد طرحت حينها رؤية الترويكا العراقية على أساس المكونات الاكبر في المجتمع العراقي، الشيعة والسنة والكرد، ومن هذا المنطلق يسهل تعامل الادارة الامريكية مع ممثلين سياسيين موزعين ضمن تقسيمات هذه الترويكا في المعارضة العراقية.
وقد ذكر عدد من السياسيين، ممن حضروا مؤتمرات المعارضة العراقية في صلاح الدين في كردستان العراق أو في لندن، أن التعاطي الامريكي كان قائما على اساس تقسيمات الترويكا بوضوح لا لبس فيه، حتى أن بعض الساسة رفض توصيفه الطائفي، لأنه كان يعمل أو يدعي العمل تحت مظلة حركات أو احزاب ليبرالية، ترفض التوصيف الامريكي المقترح على اساس الهوية الطائفية أو الإثنية.
استندت بعض الطروحات السياسية الامريكية، سواء قبل الإطاحة بنظام صدام أو بعده، على أن العراق (دولة ملفقة) تاريخها المعاصر لا يمتد سوى إلى 100عام، وقد تم اختلاقها من قبل الساسة البريطانيين والفرنسيين بعد الحرب العالمية الاولى، اثناء الجلوس إلى طاولة مفاوضات سايكس – بيكو عام 1916، ليبنى بلد من ترويكا تاريخية بحسب وجهة النظر تلك، فالعراق الحديث تكون من ولاية الموصل الكردية في الشمال وولاية بغداد السنية في الوسط وولاية البصرة الشيعية في الجنوب، وأن من سعى من السياسيين والاداريين الامريكان وصناع القرار في ادارة بوش إلى وضع حلول للمشكلة العراقية، استلهم هذه الترويكا التاريخية في محاولة خلق ترويكا حديثة للوضع العراقي، وقد كتب الكثير في نقد هذه الرؤية وتفنيدها من باحثين وكتاب عراقيين وغربيين، حيث ذكروا أن الوجود العراقي يمكن الاستدلال عليه تاريخيا قبل الترويكا العثمانية المشار لها، بل إن هذه التقسيمة العثمانية لم تكن سوى شكل اداري لادارة بلد واحد قسم ثلاثيا لاغراض ادارية فقط.
لكن من جانب آخر يجب الاعتراف بأن تقسيمة الترويكا العراقية لاقت نجاحا أو هوى في نفوس قطاع واسع من سياسي المعارضة العراقية ولعدة اسباب، مثال ذلك أن الكرد وجدوا في الامر اعترافا صريحا بهم كلاعب اساسي في العراق المقبل، وسيتحركون ضمن معطيات الفدرالية التي اتفقوا مع الاطراف الاخرى عليها وبرعاية امريكية ضامنة للاتفاقات. وانطلاقا من هذه الفدرالية المائعة وغير محددة المعالم، كان تخطيط القادة الكرد واضحا للوصول إلى كردستان مستقلة، لذلك كان تعاملهم مع الترويكا المقترحة يصب في مصلحتهم اكثر من أن يتم التعامل معهم كعراقيين ذوي خصوصية قومية. أما الشيعة فان الترويكا بالنسبة لجزء كبير منهم كانت الخيار الانسب، وتحديدا بالنسبة لاحزاب الاسلام السياسي الشيعي، فهم عبر هذه الترويكا سيشتغلون على بلورة الهوية الطائفية وتقديمها على الهوية الوطنية الجامعة، حتى غدا الاعتراف بها امرا مفروغا منه، بعدما كانت الهوية الطائفية على مدار عقود من الزمن إشكالية مؤرقة لهم، حيث تمثل صراعا بين الفضاء الوطني المحدد للفعل السياسي والإطار النظري للفضاء الاسلامي الذي ينادون به نظريا، والذي لا يعترف بالهويات الوطنية، لذلك فتحت الترويكا العراقية السبيل امام الاحزاب الاسلامية الشيعية للارتماء بحضن التشيع الايراني ودولة الولي الفقيه دون وجل، بالاضافة إلى أن احزاب الشيعة وعبر هذه الترويكا طرحوا انفسهم باعتبارهم ممثلين للاغلبية في العراق، وباتوا يطالبون بالحصة الاكبر من الكعكة. أغلبية طائفية جيرت باسمهم دون تعب أو برامج سياسية تسعى لكسب الاغلبية وتخشى من الفشل، في حال عدم تحقيق البرامج السياسية المعلنة، اغلبية طائفية وراثية لا فكاك منها للمواطن المبتلى بانتماء ينتقل عبر جيناته، وحتى مع تعالي صراخ الليبراليين الشيعة، ورفضهم لهذا التوصيف لكنهم في النهاية خضعوا أو كادوا لهذه التقسيمة الصارمة التي باتت اشبه بالقدر.
مثّل السنة في حقبة معارضة النظام السابق الحلقة الاضعف في هذه التقسيمة الثلاثية، فطالما تماهى الوجود السني في العراق مع المشاريع القومية العربية بجناحيها الناصري والبعثي، وهم لذلك ينظرون إلى هذه الترويكا نظرة ريبة وتخوف، نظرة تقلقهم من تحولهم إلى اقلية طائفية، بينما هم يشعرون في قرارة انفسهم بقوة الاغلبية المتكئة على تاريخ ممتد لمئات السنين، ومستندين إلى جوار عربي عمقه مئات الملايين من العرب المسلمين السنة، وباستثناء الحزب الاسلامي العراقي، الذي يمثل النسخة العراقية من حركة الاخوان المسلمين وبعض التيارات الدينية السنية المتشددة، كان الرفض السني لهذه الترويكا واضحا، لكن مع ذلك اذعن سنة العراق للأمر، وحاول بعض ساستهم اللعب باقصى قوة وسرعة لتعويض ما فاتهم في المرحلة التي أعقبت سقوط النظام وتغيبهم عن عملية كتابة الدستور الجديد، ومحاولة اللحاق بالحصول على حصتهم كاملة من الكعكة، بل نستطيع القول إن اغلبية سياسية سنية لعبت وبشكل واضح بطريقة خذ وطالب دون الاعلان عن حدود القناعة النهائية بما يجري في ملعب السياسة العراقية الملتهب.
مقابل الترويكا التكوينية، اوجدت الاتفاقات تحت سلطة الادارة المدنية التي كان يديرها السفير بول بريمر ترويكا السلطات، التي باتت تعرف بعد ذلك اعلاميا وسياسيا بنظام المحاصصة، وكما هو معروف أن السلطات في اي بلد ثلاث، تشريعية وتنفيذية وقضائية، وأن النظم الديمقراطية في العالم تعمل وفق مبدأ فصل السلطات، ورقابة هذه السلطات بعضها بعضا لضمان الشفافية وعدم استشراء الفساد، لكن في الحالة العراقية استحوذت ترويكا المكونات على ترويكا السلطات وبطريقة مشوهة، اوصلت التقاسم حتى اصغر المناصب، واصبحنا ازاء ما بات عرفا منذ عقد من الزمان، حيث السلطة التنفيذية قد تقاسمها الشيعة والكرد، فحصة الكرد رئاسة الجمهورية وحصة الشيعة رئاسة الوزراء، بينما حصة السنة اصبحت السلطة التشريعية، وبناء على ذلك تبدو السلطة القضائية وكأنها باتت خارج تقسيمة الترويكا، ولا أحد يعرف السبب. وباتت هذه السلطة غنيمة الاقوى من اللاعبين يطويها تحت جناحيه، فعشنا تحت ظل قضاء مسيس وعاجز عن الفصل في المشكلات التي تحصل في العملية السياسية.
اليوم نحن نعيش حالة من الصراع داخل كل بيت من بيوت الترويكا التكوينية، صراع اصبح اكثر وضوحا واكثر قدرية بالنسبة للعراقي، فالبيت الشيعي يشهد تنافسا وصراعا وربما اقتتالا داخليا، لكن المحصلة أن هذا البيت سيقدم اوراقه في الانتخابات التي على الأبواب، على انه الفرع الاكبر في الترويكا، وأن ائتلافه هو الممثل الرسمي للاغلبية العراقية، ومع يقين العراقي بأن الاحزاب الشيعية قد سرقت ونهبت وقتلت ودمرت البلد وأوصلته إلى الحال المأساوي الذي وصل اليه، لكنه في لحظة الانتخاب سينظر من خلال النظارة الايديولوجية للترويكا الموضوعة على عينيه، ليعيد انتخاب رموزه السابقة نفسهم. كذلك حال الكرد، ووضع الاقليم السياسي المتأزم الذي يهدد بتقسيمه إلى اقليمين والاوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيشها الكردي دون دفع مستحقاته لاشهر، كشفت زيف فقاعة الرفاه الاقتصادي التي روج لها اعلام الاحزاب الحاكمة في الاقليم، وفساد الاحزاب الكبرى المتنفذة التي حولت الاقليم إلى الى ضيعة محكومة من قبل عوائل قيادات هذه الاحزاب، ومع هذه الحالة المأساوية سيفوز المرشحون الذين سيلعبون على ورقة الاستقلال والتهديد الاثني للوجود الكردي وفق نظارة الترويكا. اما السنة وبعد أن خسروا كل اراضيهم امام هجمة عصابات «داعش»، التي يتم استعادتها بصعوبة ونزيف دم الاف الشهداء، حتى بات المواطن السني يقف اليوم امام الحقيقة المرعبة المتمثلة بملايين المهجريين من ابناء مدنهم المدمرة التي تحتاج إلى المليارات لإعمارها، ومع كل ذلك نحن اليوم نتفرج على إعادة بلورة البيت السني في الترويكا العراقية الحزينة، وهذا ما شهدناه في مؤتمر جنيف الاخير، حيث السعي المحموم لبلورة مكون سني في الترويكا العراقية اكثر كفاءة وقوة بمواجهة الشركاء اللدودين في المستقبل القريب، وليعاد تدوير الوجوه نفسها في الانتخابات المقبلة، فهل رأيتم بؤسا اكثر من هذه الترويكا؟
كاتب عراقي
صادق الطائي
دعنا ، جدلاً ، نتفق مع من يقول أن الدولة كانت طائفية ، لكن هل هناك من ينكر أن العراقيين ، تحت ظل تلك الدولة ، لم ينظروا ماذا كان مذهب جارهم أو صديقهم ، بل يشعروا بالخجل أن يسألوا عن ذلك ، و كانوا يتزاوجوا بينهم . و الجامعات و البعثات مفتوحة لمن كان من حزب السلطة أياً كان مذهبه . و الآن و أحزاب الإسلام السياسي الشيعية بالسلطة دعهم يوفروا للناس ما كانوا عليه ..و مبروك عليهم السلطة !