(باتجاه الطريق)

حجم الخط
0

على أطراف المدينة المرتمية أمام البحر التقيا، هو يدرس الأدب صباحاً في الجامعة، ويعمل في المحجر الواقع أمام الجبل بالمدينة المجاورة بعد الظهر، يحمل الحجارة مع العُمَّال، لينفق على الدراسة، وهي تدرس في كلية الفتيات صباحاً وتنكفئ ليلاً على ماكينة الحياكة التي لم تعد أمها قادرةً على مواصلة الانحناء لها، تضرُّعاً لإنهاء فستانٍ لزبونةٍ أو حُلَّةٍ لأحد وجهاء المدينة.
تحت السماء الرمادية تعاهدا على أن يواصلا البحث عن ثقبِ إبرةٍ من الضياء تنفذ منه أحلامهما إلى التحقق، سارا على طريق البحر باتجاهه، وظلاَّهُما ينكسران تحت وقدة الظهيرة. سألته:
ـ كيف حال الدراسة؟ الأدب وتغيير العالم؟
ـ لا شيء.. أنا أدرس الكذب. يقولون لنا إن الأدب قادرٌ على تغيير العالم.
تنهدت، رنت للبعيد.. شبك يدها في كفهِ وهما يقتربان من الشاطئ. شباب يسبحون، وفتيات يعبثن، وظلال تركض خلف أخرى، ومناديل ترنّحها الضحكات. نظر لها، كان وجهها شاحباً. سألها:
ـ ما أخبار أسرتك.. هل مازالت والدتك مريضة؟
توقفت فأوقف سيره. أزاحت خصلةً نافرةً عن جبينها..
ـ نعم. صحتها تتدهور. لم أعد أذهب للجامعة تقريباً لأطبّبها.
هز رأسه وسحبها من يدها برفق فالتقى ظلاَّهُما النحيلان تحت خطواتهما، اختلس نظرةً إلى ثوبها الطويل، عليه أثر خياطةٍ مكان تمزُّقٍ بادٍ. مرَّ بائع الشاي أمامهما فناداه. أخذا يشربان الشاي اللاذع. معدته خاليةٌ وهي لم تُفطر، ويبتسمان. اتفقا على الموعد القادم. وضعا الكوبين على الرِّمال، ونهضا، أخذت تنفض الرمال عن ثوبها، وهو يمسح عرقه. في الشارع ودّعها وهي تجاهد لتشق طريقها بين الأجساد المتلاصقة في سيارة الأجرة الجماعية لتجلس في آخر العربة. نقد السائق الأجرة، فانطلقت وقد زمجرت العجلات على الإسفلت. وضع يديه في جيبيه وسار.
في المكان القصي عند الجبل فتح كتابه الذي اصطحبه خلسةً إلى الموقع، يقرأ بعيداً عن عيني ملاحظ العُمّال، غرق في النظريات والتحليلات، بينا يخطط بالقلم أسفل الكلمات مال عليهِ ظلٌّ ثقيل، رفع عينيه فرأى الملاحظ محتقن الوجه.. نهض ببطء وقد أغلق كتابه. بادره الرجل الغاضب:
ـ هنا مكان عمل للرجال وليس مكتبةً عامَّة. إما أن تعمل أو لا ترينا وجهك.
نهض ينفض الغبار عن ملابسه. وضع الكتاب على الحجر الضخم بجواره ونهض، نظر إليه منتظراً. أكمل الرجل بالحدة نفسها وهو يشير بالعصا في يده إلى سفح جبلٍ بعيد:
ـ نحتاج إلى ثلاثين نقلة من الحجر الأبيض من هناك، ستجد الأجوِلة بجانب سيارة النقل، أمامك ست ساعات.
استمرَّ ينظر إليه وقد خلت عيناه من أي إحساس. هزَّ رأسه في بطء. سار باتجاه الجبل. قبل أن يتقدّم خطوات صاح الملاحظ المتهكم:
ـ نسيت هذا!
التفت إليه فوجده يشير له بالمعول. سار نحو الرجل ببطء. وضع قلمه في وسط الكتاب وتناول المعول.

الشمس قصديرٌ منصهر في كبد سماء المدينة التي راحت تشوي الأجساد السائرة تحت قيظها. مرَّت نصف ساعةٍ ولم تأتِ وفق الموعد. مسح بمنديله وجهه الغارق في العرق، وهو يراقب السائرين، مرَّت نسمةٌ فمنحت روحه بعض الحياة وسط اللهيب المنسكب والبحر بعيد.
بعد ساعةٍ كاملة كان وجهه قد احمرَّ بشدة من الشمس، لا مظلة ولا شجرة ليستظل بها. سار إلى الشارع، وأشار إلى سيارة نقلٍ جماعي اكتظت بالركَّاب. بدا ظهر أحدهم خارج الباب. أبطأت له العجلات فحشر نفسه بينهم. نصف جسده في الهواء، في سيارةٍ منطلقة.

في قاعة الدرس أخذ الأستاذ يتحرك بزهوٍ وسط الطلاب وهو يكرر ما قاله عن الأدب والعالم والتأثير والتأثُّر ضارباً أمثلة واستشهادات كثيرة. الطلاب بين نائمٍ وعابثٍ ومن يتلهَّى بالنظر خارج قاعة الدرس أو يغمز لزميلته. توقف الأستاذ المتأنَّق عن الشرح وقال: هل من أحدٍ لديه مداخلة؟ استفسار أو إضافة. رفع يده المربوطة بشاش طبي. ابتسم الأستاذ وأشار له من أطراف أصابعه. نهض بادياً عليه الإرهاق.
ـ تفضّل.
ـ لماذا تعلموننا الكذب؟
جفل الأستاذ وأخذ ينظر إليه. همهم الطلاب وقد استدارت أعينهم جميعاً إليه.
ـ ماذا تقصد يا بني؟
ـ قلتم لنا إن الأدب يغير العالم. العالم لا يتغير. الأدب صورة باهتة لحقيقة العالم القائمة على الفعل. القوة تحكم العالم وتحرّك كل ما فيه حتى الأدب. اذكر لي نصاً أدبياً حرّر البشرية من الفقر؟
ارتبكت نظرات المحاضر قليلاً ولم تستطع الثبات على عيني الشاب الغاضب.
ـ يا ابني. الأدب والمجتمع كالأواني المستطرقة يغير ويتأثر والتفاعل ينبع من..
صاح مقاطعاً.
كذب. كله نظريات والعالم يئن خارج هذه السطور المنمقة.
ساد الهرج القاعة، والطلاب ينظرون لزميلهم في حماس، ويؤازرونه بنظراتهم، أخذ الأستاذ يخبط بالقلم على المنصة أمامه ويشير لهم بكفّه طالباً الهدوء. عاد ينظر للفتى المتحفّز وعينيه الغاضبتين. قال محاولاً التخفيف من حدة الموقف:
ـ سنخصص محاضرة كاملة لمناقشة رأيك، وسنتشارك جميعاً في طرح الآراء.
ظل الفتى على جموده. ابتسم الأستاذ وسأله بمودّة:
ـ أراك تربط يدك.. هل أنت مصاب؟
ـ نعم
ـ سلامتك. ما السبب؟
ابتسم بمرارة وصمت طويلاً.
ـ كنت أكتب قصيدةً في الجبل.

انكسرت أشعة الشمس على استواء الساحل، البحر يُفلت من ملاحقة الأشعة له والرمال تنتظر. في ركن قصيٍّ بالمدينة حيث وقف هو لاحت البنت تسرع الخطى، عيناها جنازتان. نهض عن المقعد الحجري وسار نحوها بقلق. التقت كفاهما، نظرت إلى يده المضمّدة، وتوقف طويلاً أمام عينيها المرهقتين. سارا تحت الشمس.
ـ لم تأتِ موعدنا منذ خمسة أيام؟
ـ أمي ماتت.
توقف عن السير وهو ينظر لها. كانت عيناها جامدتين كأنما استنزفتا كل إمكانيةٍ للبكاء. تنهّد. فكّر في ضمّها أمام السائرين، وتراجع. ربت على كتفها.
واصلا السير، كأنما انتبه للمرة الأولى إلى نحولها وشحوب وجهها. كان عاجزاً حتى عن مواساتها.
المدينة تواصل مواتها، بين بشرها اللاهثين على الطرقات بحثاً عن القوت والمتناثرين على الأطراف في المحاجر والممددين على الأسرَّة في البيوت الفقيرة والبحر لا يمنحها من بهائه سوى الزَبَد.
تذكرت أن لديها عملاً ثقيلاً مؤجلاً لزبائن ينتظرون ملابسهم التي تركتها أمها في منتصف الأزرار والأقمشة ورحلت، ولم يخبرها بأنه فُصِل من الجامعة مؤقتاً «لتطاوله على الأساتذة ومناقشتهم بأسلوب غير لائق»، كما ذكر التقرير بعيداً عن أعين الطلاب. سيذهب إلى المحجر ريثما يعيدونه للكليَّة. التقط يدها وسارا باتجاه الطريق.
قالت بابتسامةٍ منطفئة:
ـ إلى أين سنذهب؟
ـ إلى البحر؟
ـ من أي طريق؟
ـ عن طريق المقبرة.

كاتب مصري

حمزة قناوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية