عندما قاد الضابط فولجنسيو باتيستا «ثورة العرفاء» عام 1933 على نظام الديكتاتور جيراردو ماشادو، بطل حرب الاستقلال الكوبية، فعل ذلك لملاقاة انتفاضة طلابية، وحالة إضراب عام، توسّعت في كل أنحاء الجزيرة. وعندما وصل العقيد باتيستا إلى رئاسة كوبا عام 1940، حدث ذلك في انتخابات حرّة تنافسية، وقاد تحالفاً «ديموقراطياً اشتراكياً» يشكّل الحزب الشيوعي الكوبي جزءاً أساسيّاً منه.
كان باتيستا، الخلاسيّ المتحدّر من أصول اسبانية وأفريقية وصينية، أوّل رجل غير أبيض ينهض إلى حكم الجزيرة. وكان الحزب الشيوعي متحمّساً له ولسياساته الاجتماعيّة، ويجنّد النقابات العماليّة للدفاع عنه، ويصنّف أخصام باتيستا على أنّهم من فلول الفاشستية. وفي مناخ الحرب العالمية الثانية، لم يكتف باتيستا بإعلان الحرب على دور المحور، بل زايد على الحلفاء بحثهم على شنّ الحرب ضد الكاوديو فرانشسكو فرانكو، نصير هتلر وموسوليني.
اتسمت ولاية باتيستا الرئاسية الأولى بالمنحى التسلّطي، مع أنه وصل إلى المنصب، أول الأمر، بصندوق الاقتراع. لكن عندما عزم باتيستا على العودة إلى السلطة عام 1952، وجد أن الأنسب له استباق موعد الانتخاب بانقلاب عسكري. لم يكن «الحزب الشيوعي الكوبي» حليفاً قوياً له هذه المرة، لكنه بقي في آخر الجردة، في صفّه، يندّد بـ«فاشية» أولئك الذين خرجوا على حكم باتيستا، وخصوصاً المحامي الشاب، العضو في «الحزب الأرثوذكسي» (وهو كان حزبا شعبويا ذا ميول يسارية)، الذي قاد الهجوم المسلّح العاثر على ثكنة المونكادا، واعتقل ثم لم يلبث أن نفي إلى المكسيك.
بخلاف باتيستا الخلاسي، القادم من وسط طبقي متواضع، والذي انخرط في السلك العسكري، وقفز انقلابياً من عريف إلى عقيد، ثم أتى رئيساً للجمهورية، مرة بالصندوق ومرة بالعنف، كان فيديل كاسترو ابن البرجوازية البيضاء، ابن لأحد الملاك العقاريين الكبار وطباخته السابقة، وكان يعتزم الانخراط في العمل البرلماني لولا أنّ باتيستا نسف النسق الدستوري كلياً، عام 1952.
وبعد سجنه ومحاكمته على خلفية تدبيره الهجوم، الأرعن بالمقاييس العسكرية، على ثكنة المونكادا، سيستفيد كاسترو من انتمائه إلى عليّة القوم، ومن ضغط الرهبان اليسوعيين بقوة من أجل تقصير مدة حبسه، والاستعاضة عنها بالنفي إلى المكسيك. في كل هذه المدة، بقي كاسترو في أعين الشيوعيين الرسميين، «فرانكوياً»، «فاشياً»، «يسوعياً»، «برجوازياً».
كان اليسوعيون من أكثر المتحمسين لتجربة فرانكو في اسبانيا آنذاك، لكن تشاء الظروف أن يتعرّف كاسترو في منفاه على أحد القادة العسكريين لمعسكر الجمهوريين، من أعداء فرانكو في الحرب الأهلية الاسبانية، وهو ألبرتو بايو، حيث كان يدرّس في الأكاديمية العسكرية. نهلت المجموعة المغامرة التي تشكّلت حول الأخوين فيديل وراؤول من تعاليم هذا الرجل وإرشادته في حرب العصابات (الغوار)، كما أثّرت فيهم أشعاره وذكرياته عن الحرب الاسبانية.
لكن تعاليم ألبرتو بايو لم تنفع في البداية. المجموعة التي أبحرت على متن اليخت غرانما كادت أن تباد عن بكرة أبيها عندما بلغت السواحل الكوبية، قبل ستين عاماً من اليوم. كل ما سيحدث بعد ذلك سيتكفّل بتغذية الأسطورة، الأسطورة التي من لحم ودم، أسطورة عشرين ناجياً من موت رفاقهم أبحروا معهم. عشرون ناجياً تمكنوا في سنوات قليلة من السيطرة على كل كوبا، وإسقاط حكم باتيستا، مطلع العام 1959.
طوال سنوات الانتفاضة المسلّحة الثوريّة، لكن أيضاً في الفترة التالية للنصر، ظلّ كاسترو ينفي عن نفسه تهمة الشيوعية التي حاول أن يلصقها به باتيستا، وظلّ الحزب الشيوعي الرسمي يتبرأ من هذه المجموعة المغامرة قبل أن يستلحق نفسه في ربع الساعة الأخير. أما الولايات المتحدة، فانتقلت بشكل فجائي من زيادة تسليح نظام باتيستا إلى وقف الإمدادات له، خصوصاً بعد استخدامه لقنابل النابالم ضد مجموعات من السكّان، وظهور حالة احتضان برجوازية وشعبية في آن لانتفاضة فيديل: البرجوازية البيضاء، لأنه ابنها الشرعي، والطبقات الشعبية الخلاسية لأنّ كوبا التي كانت أفضل حالاً من كل بلدان أمريكا اللاتينية على الصعيد الإقتصادي، وصلت إلى الحضيض في سنوات الولاية الثانية للرئيس باتيستا.
أظهرت الثورة الكوبية في لحظة انتصارها، مفارقة صارخة: حزب شيوعي يتخلّف عن ركب الثورة في أهم مراحلها، وحركة مسلّحة ينتمي عقلّها المخطّط، ووجهها الكاريزمي، ولسانها المفوه، المجتمعين في شخص واحد، إلى البرجوازية البيضاء، في بلد كانت تتداخل فيه، أمس واليوم، التناقضات الطبقية مع التناقضات العرقية.
وكانت مفارقة أخرى: التحوّل التدريجي التصاعدي للحركة الثورية بعد نجاحها نحو الماركسية اللينينية ـ وابتلاعها للحزب الشيوعي القديم، بالاتحاد معه، ثم تأسيسها لحزب جديد، عرف باسم حزب الثورة الاشتراكية، ثم عاد إلى التسمية الشيوعية بعد ست سنوات على انتصار الثورة، مع أنه لم يتحوّل يوماً إلى حزب جماهيريّ يقارن بتضخم عديد الشيوعيين رسمياً في الاتحاد السوفياتي أو الصين، بل لم يعقد مؤتمره الأول (1975) إلا بعد ستة عشر عاماً على الثورة!
فالماركسية اللينينية لم يتبناها كاسترو إلا بعد انتشارها المتصاعد ضمن حركته، وتحاشياً، لانقسام هذه الحركة بين يسار ويمين داخلها، بحيث يكون هو الخاسر الأكبر كونه ابن البرجوازية. هذا بالإضافة إلى تداعيات اصطدامه بواشنطن، مع أنّ الرئيس جي.اف. كينيدي ظلّ يعتبر، وفي عزّ الصدام مع كاسترو، أن أسوأ نظام للاستغلال والإذلال كان نظام باتيستا، وأنّ المشكلة ليست مع كاسترو، بل مع الجناح الشيوعي المتنامي لحركته!
وقائع تحوّل حركة برجوازية ثورية إلى حزب شيوعي جديد يبتلع الحزب القديم أثارت خوفاً وريبة داخل الحركة الشيوعية العالمية، مثلما أفسحت بالمجال لتطوير نظرية سوفياتية ذرائعية تفيد سياسات موسكو في العالم الثالث.
الخوف والريبة: من عودة الروح إلى «البلانكية» (نسبة إلى الثوري الفرنسي اوغست بلانكو في القرن التاسع عشر). المقصود بالبلانكية هذا المنزع، لاختصار المسافة، وتشكيل مجموعة نخبوية إرادوية متآمرة من المثقفين وبعض العسكريين، بداعي السيطرة على مركز الحكم أو الإدارة (دار البلدية الباريسي في حالة بلانكي)، بدلاً من خوض الصراع الطبقي، بشكل تراكمي، وفقاً لمنهج يعتبر نفسه علمياً. فإذا كان كاسترو انتصر على باتيستا من دون جميلة حزب الطبقة العاملة، ثم ألّف حزباً شيوعيّاً جديداً، بعد انتصاره، فهذا كفيل بانتهاك «ضرورة» وجود أحزاب لينينية!
وفي المقابل، التذرّع والتسويغ: أعطت التجربة الكوبية المبرّر للاتحاد السوفياتي في عهد نيكيتا خروتشيف، لاجتراح «نظرية التطور اللارأسمالي». أي الفتوى بأنّه، في البلدان الكولونيالية المتحررة حديثاً، يمكن أن تقود البرجوازية الصغيرة المتثورنة طريق الابتعاد عن الرأسمالية، فتقع في «منزلة بين منزلتين»، بين التوجهين الرأسمالي والإشتراكي، ويتوجّب عليها الاختيار لاحقاً، بين التجذّر والردّة.
عنت هذه الفتوى عملياً أنّه لا حاجة جدية لوجود أحزاب شيوعية مستقلة في المستعمرات السابقة، وبالتالي يطلب من الشيوعيين الموسكويين فيها الالتحاق بأحزاب ـ الدولة، والعمل على جذبها نحو الإشتراكية. على هذا الأساس، حلّ الحزب الشيوعي المصري نفسه مثلاً، وطلب مناضلوه وهم في المعتقلات، الإنضمام إلى الحزب الحاكم. ولم تقتصر هذه النظرية على الخط السوفياتي فقط، وجدت لها «شكلاً تروتسكياً» في تنظيرات وأعمال ميشال بابلو (يوناني مصريّ من الإسكندرية). فشغف بابلو بالثورتين الجزائرية والكوبية حدا به لمحاولة توسيع نصيبه من «الأممية الرابعة» في كل الإتجاهات، بما في ذلك العمل على ضمّ حزب البعث العربي الإشتراكي إليها! بقيت كوبا ينظر لها كـ»مخلوق هجين» داخل المنظومة الإشتراكية، الموسكوية المركز، مع أنّها كانت أكثر اعتماداً على السوفيات من سواها، لا سيما على الصعيد الاقتصادي، وهي اتكالية أعفت بها نفسها من موجبات تحديث البنى التحتية والتصنيع، في وقت ضاعفت فيه الحصار الأمريكي المفروض عليها لعقود، بحصار ذاتي تفرضه على نفسها، ويؤدي بها نحو التخشّب. لكن وثبة الشعبويات اليسارية في أمريكا اللاتينية في التسعينيات، عادت وأنعشت الثورة الكوبية، التي استفادت أيضاً من تسويقها السياحي لنفسها بوصفها نظام آيل للانقراض (!)، ومن عدم استعداد واشنطن لتحمّل الأعباء الاقتصادية والأمنية لسقوط النظام في الجزيرة القريبة من سواحلها.
وحظوة فيديل شاباً عند اليسوعيين عادت فوجدت مصداقاً لها في انفتاح الفاتيكان، بدءاً من البابا يوحنا بولس الثاني، على كوبا. لعب البابا البولوني دوراً طليعياً في هدم المعسكر الاشتراكي في أوروبا، لكنه أدى دوراً إنجادياً غير قليل للجزيرة الحمراء، في مرحلة لم يعد فيها للفاتيكان أنظمة مدللة عنده مثل اسبانيا والبرتغال وتشيلي أيام فرانكو وسالازار وبينوشيه.
منذ ربع قرن، تواكب الكنيسة الحزب الحاكم في تأمين «الاستقرار» في الجزيرة، ولعلّها معادلة مرشحّة للسطوع بشكل أوضح بكثير في المستقبل القريب.. بعد أن غاب القائد العام للثورة. كوبا ـ كما كاسترو ـ حكاية مشوّقة.. وغير سهلة!
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
شكرآ، أخي وسام ،على هذا العرض التاريخي والعقلاني
لتاريخ جزيرة وزعامة أشغلت العالم لعقود بين شد وجذب،لشرق وغرب،كاد أن يتسبب بحرب لا تبقي ولا تذر!.
كثير منا استاق معلوماته عن الثورة الكوبية من خلال مصادر الشعراء
–
لا بل حتى من اغاني المغنين وظلت مواجهة كاسترو لامريكا حدثا
–
يصرف المتتبع عن تقصي حقائقها وما دامت امريكا في عرف البعض
–
شيطانا فلا يمكن لمن يواجهها الا ان يحسب على الملائكة وكذلك
–
اعتبر فيديل من طرف الكثيرين من الناس
–
مقال السيد وسام سعادة اضاء جوانب مهمة من تلكم الثورة
–
جزيل الشكر ايها الكاتب
–
وتحياتي
جزيل الشكر على هذا العرض التاريخي المهم والشيق جداً