بركة عزيز نيسين

الثلاثي المبدع في عالم الأدب والسينما في تركيا، يشار كمال وعزيز نيسين ويلماز غوني، الحكايات منهم وعنهم لا تعد ولا تحصى. من بينها طرائف ولطائف وسخريات من الساخر الكبير الراحل عزيز نيسين (1915 ـ 1995) من بينها أسجل حكايتين من طرائفه الساخرة.

بركة

روى لي عزيز نيسين الحكاية التالية التي عاش تفاصيلها ذات يوم، وأنقل ما ذكر: ضاق ذرعا بفقره وبملاحقات الشرطة له، إن كانت علنية أو سرية، ما عطل حرية حركته، وأشغاله وأعماله، أو الوفاء بشروط التزاماته، ولم يعد لديه من المال حتى لدفع إيجار الشقة التي كان يسكن فيها، خصوصا وأن زوجاته الثلاث طلقنه تباعا، بعد أن افتقدن حياة الاستقرار، مع رجل لا تتركه الشرطة وشأنه، دائمة الملاحقة له، وتنكد عليه حياته، وقلما تجعله ينهي أي عمل باشره. لذا فإنه قرر البحث عن غرفة تؤويه خارج المدينة، عله يستريح فيها، ويريح ملاحقيه.
وبعد بحث وتقص، وجد ما يريد في منطقة نائية، قلما يوجد فيها أي معلم معروف، وتابع هناك حياته في القراءة والكتابة. ثم أخذت تتوالى بعد ذلك ظواهر أدخلت إلى نفسه بعض الراحة، وتيسير الحياة وتوفير بعض المتطلبات، كإنشاء بقالة لبيع المواد الغذائية، أو أخرى لبيع الخضراوات والفواكه، ثم أنشئ فرن ومقهى وغير ذلك.
بعد أن تكاثر الناس وأصبحت الحياة في الحي الناشئ حديثا، تزداد صخبا ونشاطا وتفاعلا، ذات يوم اتصل به صديق يعلمه أنه اشتاق إليه، ويرحب بعودته إلى المدينة، ولا مانع لديه بأن يسكن معه من دون أن يكلفه ذلك أي مترتبات مالية. فكر نيسين بالأمر وراجع حساباته، فوجد أنه لا يستطيع الاستغناء عن وجوده في المدينة، نظرا لحاجته إلى نشر ما يكتب أو ترتيب أوضاعه للعمل في مشاريع تتعلق بالكتابة في الصحافة أو نشر الكتب، أو غير ذلك. المهم أن خبر عزمه على ترك محل إقامته في ذلك الحي شاع وانتشر.
وذات مساء سمع طرقا على الباب ففتحه، ليجد أصحاب المصالح المختلفة الذين تعامل معهم من جيرانه أمامه، فاستغرب ذلك، ولم يملك إلا أن يدعوهم للدخول، ففعلوا، وبعد أن رحب بهم، اعتذر منهم وأخبرهم بأنه لا يملك أن يقدم لهم أي شئ من مستلزمات الضيافة، فكان الجواب: لا تهتم بذلك نحن أحضرنا ما تحتاجه، استغرب ذلك وحار في أمره، وبينما هو في حيرته استمع إلى سؤال من أحد ضيوفه: هل صحيح أنك تنوي ترك الحي؟ فأجاب بسرعة: اطمئنوا فإنني لن أترك إلا بعد تسديد ما لكم من ديون. أجابوا معا: لا عليك من ذلك واسمع ما نريد قوله: نأمل منك ألا تغادر الحي، ونحن سنتكفل باحتياجاتك جميعها من غذاء وكساء وشاي وسكر وأي شئ تحتاجه، نحن على استعداد لتلبية ما تريد مقابل عدم ترك الحي.
استغرب نيسين الأمر، فأسكتته الدهشة للحظات، ثم سمع كلاما يؤكد جديتهم في تنفيذ طلباته جميعها، إلا أنه طرح عليهم سؤالا: لماذا كل ذلك، أنا رجل لا آكل حق أحد، ولا أحب العيش على حساب الآخرين، فلماذا هذا الكرم الذي تغمرونني به؟ قهقه الجميع ثم باح أحدهم بالسر: أنت رجل مبروك، وأينما حللت فإن بركتك تتوزع على من حواليك. فمنذ أن جئت إلى الحي، تبعك رجال الشرطة السرية والعلنية، وتبعك أيضا رجال المباحث ورجال مباحث على المباحث وغيرهم وغيرهم، ولم يكتفوا بالمراقبة العابرة، بل سكنوا هم وعائلاتهم في الحي، وهذا ما وفر لنا زبائن دائمين، يدفعون ما عليهم بانتظام، فهل تريد أن نقطع رزقنا برحيلك، نرجوك ألا تغادر، فأنت بركة ونحن سنوفر لك كل شئ وأي شئ، نرجوك أن تبقى وتستمر يا بركة.
ذلك ما كان في تركيا ذات يوم، لكنه في بلادنا واقع كل يوم.
وآه منا نحن معشر الحمير
بعد أن قابلت الأديب الكبير عزيز نيسين في مدينة اسطنبول في 12/4/1984، وأجريت حديثا معه عنونته عند النشر «جارنا التركي كاتب كبير» ونشر في مجلة «العربي» الكويتية في شهر أيلول/سبتمبر من العام نفسه، وصلت إلى إدارة التحرير في المجلة قصة مترجمة عن التركية للكاتب عزيز نيسين كان عنوانها «آه منا نحن معشر الحمير»، احتارت هيئة التحرير في أن تنشرها، أو لا تنشرها، لعنوانها المستفز ومضمونها الذي يحمل ترميزات دالة، وهي تتلخص بأن حمارا كان يرعى في حقل، وشاهد من بعيد ذئبا، فحادثته نفسه قائلة بأن الذئب لا يريد الشر بي، وما زال بعيدا عني، واستمر في تناول الحشائش من الحقل، ثم لاحت منه التفاتة، فرأى الذئب يتوجه نحوه مسرعا، فهون الأمر وقال لا لا إنه لا يقصدني، واستمر على حاله في الحقل، ثم أحس بعد دقائق أنفاسا ساخنة تلسع مؤخرته، فهون الأمر واستهان به، وأعلن لا لا لا إنه لا يريد شرا بي، وعندما ازدادت الأنفاس سخونة، ونزلت الأنياب على مؤخرته نهشا، استعمل حافريه الخلفيين، لكن بعد فوات الأوان، وبعد أن أصبح وليمة سائغة للذئب.
المهم أنه تم نشر القصة، ليتبعها بعد ذلك صدور مجموعة قصصية لنيسين نفسه مترجمة للعربية، وصدرت في دمشق تحت عنوان «وآه منا نحن معشر الحمير» ليليها صدور كتاب «روائع من الأدب الإنساني» تضمن القصة نفسها أيضا، إضافة إلى قصص أخرى بينها قصة للشاعر ناظم حكمت بعنوان «جوهر القضية»، وقصة أخرى بعنوان «الأقلام» ليشار كمال، صدرت عن دار الحدائق في بيروت.
الجدير ذكره أن عزيز نيسين الذي ذكرنا جانبا من حياة الفقر التي عاشها من قبل، كتب ونشر نحو تسعين كتابا، وأصبحت هذه الكتب تدر عليه مالا زاد عن حاجته، كما ذكر، فأسس وأدار مركزا لاستقبال اليتامى، يتولى التعليم والإقامة والصرف على جميع احتياجات الطلبة، أو حتى يلتحقوا بالجامعة، ويتخرجوا أو يلتحقوا بمعهد فني، ليحصلوا على تخصص يعينهم في حياتهم. ذلك هو ما خطه هذا المبدع في حياته، وبقي علامات مضيئة بعد مماته.

٭ كاتب فلسطيني

سليمان الشّيخ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول استقلال -هذا هو اسمي الشخصي في الهوية الزرقاء. فلسطين:

    أكثر من رائع
    شكرا جزيلا لك سيدي على هذه المقالة الرائعة
    انا المبروكة من عشاق عزيز نيسين المبروك

إشترك في قائمتنا البريدية