برلمان «طنبورة»

وطنبورة ايها السيدات والسادة، من غير العراقيين – شخصية مشهورة في الأمثال العراقية – فتاة بدوية صماء وبكماء، كما تقول الحكاية، تزوجها رجل وأحسن معاملتها، ومن طول عشرتهما تولدت مجموعة من الرموز التي اتفقا عليها، فاذا اراد منها ما يريده الزوج من زوجته، قام بفرش عباءته، فتفهم وتأتي لتستلقي عليها لتستقبل زوجها، وذات يوم هطلت أمطار غزيرة محدثة سيولا هددت مكان القبيلة فهرع كل شخص لإنقاذ ما يمكن انقاذه من متاعه البسيط، وجاء الرجل مسرعا وفرش عباءته ليجمع بها الضروري من أشياء البيت، فاذا بطنبورة تستلقي على العباءة منتظرة الزوج الذي طلبها، وفقا لما اتفقا عليه، وفي غمرة غضبه وصراخه، حاول الزوج أن يفهمها الأمر بدون فائدة، فصرخ صرخته التي ذهبت مثلا «عرب وين وطنبورة وين»، وأصبح مثلا يضرب في تصرف البعض بهمة أزاء توافه الأمور، ولا يرى الكارثة الحقيقية التي تحيق به. تذكرت قصة هذا المثل عندما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي قبل أيام بسبب صورة شاب وفتاة وقبلة مسروقة في متنزه عام وسط بغداد.
نعم، قبلة بين عاشقين صغيرين تفتح صراعا سياسيا في البرلمان، وبين قادة الكتل السياسية، والعديد من الجهات التي ترفع لواء الدفاع عن المثل والأخلاق والشرف، وتدعو لمجتمع مثالي، لكن المفارقة وبالتزامن مع حادثة القبلة، أطل على العراقيين من الشاشة الرسمية لتلفزيون العراق، برلماني إشكالي بكل ما للمفردة من معنى، فقد انتقل من كتلة سياسية إلى اخرى، وهاجم وشتم كل ألوان الطيف السياسي بحسب معطيات اللحظة التاريخية ومقتضى مصلحته الشخصية، هذا البرلماني (الشجاع) ظهر في حوار تلفزيوني، وقال بملء فمه (كلنا، كل الطبقة السياسية العراقية، سواء من هم في البرلمان أو السلطة التنفيذية سراق ومرتشون، كلنا سرقنا وارتشينا وأفسدنا واتحدى اي سياسي عراقي أن يواجهني بما يثبت عكس ذلك)، وشهد شاهد من اهلها، الكل يعرف أن الفساد ينخر مؤسسات المجتمع العراقي، بسبب رثاثة الطبقة السياسية المتعفنة، التي أوصلت البلد إلى حافات انهيار مخيف، وليس بإمكان أحد اليوم أن يتصور ما سيحصل في المستقبل القريب وفقا لهذا الانهيار المرعب، ومع ذلك يناقش الساسة (الطنابير) طريقة وضع ضوابط أو شرطة أخلاق في المتنزهات العامة، وربما سيطالبون بنصب كاميرات للتجسس على عشاق صغار يخطفون لحظات أو أحضانا أو قبلا ساذجة في استراحة بين مفخختين، قد تطيح بحياتهم وآمالهم في أي لحظة.
برلمانيون وساسة (طنابير) لا يناقشون عودة ظاهرة الخطف وإلقاء الجثث المجهولة مرة أخرى في شوارع العديد من المدن العراقية، حوادث سجلت وتسجل دائما ضد مجهول، المجهول الذي يتنقل بسيارات تتماهى مع سيارات الدولة، ويرتدي ملابس القوات الامنية، ولا أحد يعلم عائدية هذا المجهول وماهية قوته وجبروته المنفلت، الذي يصبه على رؤوس مساكين العراق.
الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية صرح بعد تكرر حوادث الخطف في بغداد، بأن هنالك حوالي سبعين عصابة تمارس الخطف والابتزاز في بغداد فقط، والساسة (الطنابير) لا يحركون ساكنا، لأنهم لا يشعرون بالتهديد في منطقتهم الخضراء، فتعداد حماياتهم اكثر من عدد المقـــاتلين في أي جيش مهني، يمكنه إذا تمت قيادته بالشكل الصحيح أن يحرر كل المدن التي قضمتها عصابات «داعش» من العراق.
الوطن ينتهكه اللصوص والمافيات وعصابات الإسلام السياسي بأطيافه المتعددة وتنظيم «داعش العفن الذي يطل علينا من أسوأ نافذة من نوافذ التاريخ العربي والاسلامي، ليذيق العراقيين مرارة العصور الوسطى باسم الشريعة، كل ذلك لا يمثل لدى (الطنابير) انتهاكا للشرف، بل صرح مصدر حكومي مسؤول «سمعنا تهديدات من قادة بعض الكتل ورجال الدين داخل البرلمان، بضرورة منع تلك الحالات – قبلة العاشقين الصغيرين- ومعاقبة مرتكبيها، مهددين برفع شكاوى تطالب بإغلاق الحدائق العامة في حال استمرار هذه الظواهر كون ذلك يسهم في إفساد المجتمع» .
من ناحية أخرى وعلى صعيد متصل بالشرف البايولوجي، انهالت علينا الأخبار من وكالات الأنباء وهي تغطي زيارات الرئيس الايراني روحاني في جولته الاوروبية، فقد تحررت مليارت ايران المجمدة في بنوك الغرب منذ ما يزيد على الربع قرن، وابتدأ لعاب الشركات الكبرى في العالم يسيل، واشتعل التكالب للحصول على قضمة من المال الايراني، الذي سيضخ في سوق الاستثمارات العالمية، ومع جولة الرئيس روحاني في عدد من الدول لعقد صفقات استراتيجية، تتضح انتهازية الغرب بشكلها الفاقع والفج، فقد (سترت) الحكومة الإيطالية روائع عصر النهضة من المنحوتات التي تزين شوارع وميادين روما، التي قد يمر بها الرئيس الضيف بأغطية وصناديق، وأرجو هنا ألا يفهم الامر بشكل خاطئ، فالرئيس روحاني والعديد من رجال الدين الاسلامي (المتنورين) لا يفكرون بطريقة طالبان أو «القاعدة» أو «داعش» نفسها، التي تحرم النحت والتماثيل لأنها اصنام، حاشا لله، انما تم (ستر)المنحوتات إبان زيارة الرئيس الايراني، فقط وبشكل مؤقت، لانها تماثيل عارية! وعند هذه النقطة يجب أن ننبه ونقول للنساء الغربيات العاملات في حقلي السياسة أو الأعمال، إحذرن، أن الرجل المسلم الملتزم دينيا لا يصافح المرأة الغريبة، نعم، لان ذلك ممنوع دينيا بحسب اعتقاد بعض الفقهاء، فلا تحرجن انفسكن في لقاء عمل أو اجتماع سياسي، بمد اليد إلى رجل، سواء أكان بعمامة أو من دونها، لأنه لو تجرأ وفعلها تماشيا مع الاعراف الدبلوماسية، فان (طنابير) برلمانهم واعلامهم سيسلخون جلده نقدا وسبا وشتما وقد يخسر مستقبله السياسي بسبب هذه اللمسة الدبلوماسية.
وارجو ألا يظن أحد بأن الهوس الديني، في ما يخص الجسد، احتكار إسلامي، ففي كل دين، في حقبة ما من تاريخه، تصاعدت لسبب أو آخر، ظاهرة الهوس الديني بتابوهات الجسد، ومعها تصاعدت محاولات محاربته أو اخفائه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، اذكر هنا ما عرف بـ «مجزرة الاخصاء الكبرى» التي قام بها البابا بيوس التاسع عام 1857، وهو بابا الفاتيكان الذي سجل رقما قياسيا باطول فترة جلوس على الكرسي البابوي التي امتدت 32 عاما (1846- 1878)، والذي عرف بتشدده الديني، وبسبب رؤيا ذات ليلة، حمل مطرقة وإزميلا وراح يقطع الاعضاء التناسلية لكل تمثال ذكري عار موجود داخل مدينة الفاتيكان، مشوها بذلك أعمالا فنية قيمة لمايكل انجلو وبرامنتي وبرنيني، وبعد أن مرت عاصفة الغضب المقدس، طلب الفاتيكان من احد النحاتين حلا لهذه الكارثة فقام بنحت اوراق شجرة تين لرقع النواحي المتضررة من تلك التماثيل، واليوم يمكن لكل زائر أن يرى الفرق واضحا بين جسد التمثال وورقة التين المضافة لاحقا.
يلوم ساستنا (الطنابير) النساء اللائي فرطن بـ (شرف المجتمع) ولا ينظرون بعيونهم العوراء إلى ملايين المهجرات في الوطن، اللواتي لا يجدن سقفا يسترهن ولا لقمة تسد جوع اطفالهن، هم بأفعالهم هذه يذكرون الجميع بـ (الطاغية ) الذي يدعون انهم جاؤوا ليخلصوا الناس من عهده الاسود، ففعلوا الاسوأ، وجعلوا المساكين يترحمون على ظلم من رحل، نعم، فلقد فعلها (زعيم الامة) قبلهم في سنوات الحصار العجاف، التي أصبح فيها البحث عن اللقمة في المزابل سنة من سنن حياة العراقيين في سنواتهم السوداء، بينما (زعيمنا المفدى) يسابق الزمن في بناء قصوره الرئاسية، التي تنافس قصور حكايات ألف ليلة وليلة، وفي ليلة ظلماء تناهى لسمع (زعيم الامة) أن شرف العراقيات قد مس، فأهتز شاربه الكث، واطلق ميليشيا (فدائيو صدام) التي يقودها ابنه الاكبر ليقطعوا رؤوس النساء (سيئات السمعة) بالسيوف وعلى الطريقة الداعشية، ليغسلوا عار مجتمع دنسته أفعالهن الجنسية، وكأن شرف العراق لم يكن يداس كل يوم، مع صرخة كل أم ثكلى ترى طفلها يموت أمام عينيها بدون أن تجد حبة الدواء، ومع صرخة كل طفل جائع لا يجد علبة حليب في بلد نهشه الفساد فتحول إلى مكب نفايات عالمي تحت شعار (النفط مقابل الغذاء)، لكن كل ذلك لا يحرك شوارب الساسة (الطنابير) في كل زمان ومكان.

٭ كاتب عراقي

صادق الطائي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أشتم رائحة العلمانية بهذا المقال
    فهل أصبح المحافظة على الأخلاق الحميدة تخلف
    نعم هناك الكثير من الفساد المالي بالعراق لكن أساسه الفساد الأخلاقي
    مع الأسف أن بعض الأحزاب الدينية بالعراق هم من أكابر السراق والمجرمين
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول خليل ابورزق:

    حياك الله ايها الكاتب الفاضل
    و قد قالها المتني قبل الف سنة:

    أغاية الدين أن تحفوا شواربكـم = يا أمة ضحكت من جهلها الأمـم

    ألا فتى يـورد الهنـدي هامتـه = كيما تزول شكوك الناس و التهم

    فإنه حجة يؤذي القلـوب بهـا = من دينه الدهر و التعطيل و القدم

    ما أقدر الله أن يخـزي خليقتـه = و لا يصدق قوما في الذي زعموا

إشترك في قائمتنا البريدية