كانت أموري الشخصيّة تسير بشكل سيّئ في ذلك الصيف الحار، حين أقنعني أحدهم، وهو شاعر يحبّ الشعر، لكن الشعر لا يحبه، أن أطبع كتاباً على نفقتي الخاصة. وأضاف أنّ مجد العلم أبقى من المال الوسخ، الذي يبعثره الورثة في الأسواق وفوق الطاولات بمجرّد موت صاحبه.
هكذا لم تمض إلا أشهر قليلة، كما يقول كتّاب الرواية التاريخية، حتّى وجدت الكتاب بين يديّ. وعليه اسمي ونسبي ولوحة جميلة تتماهى مع حالتي النفسية المتذبذبة. وصورة شخصية التقطت لي في أمسية شعرية حضرها بضعة أشخاص أجبرهم مطرٌ كثير على دخول القاعة.
ورق الكتاب من النوع الجيّد الذي لا يختلف كثيرا عن أوراق مجلة «الكرمل» التي كان يديرها الشاعر محمود درويش من رام الله. وشكرت الله أن الكتاب فارغ من الأخطاء المطبعيّة التي تفسد لذة النص التي أوصى بها رولان بارث جاره الجزار.
الكتاب الذي هو على شكل رواية مطوّلة، قلت فيه أشياءً مضحكة، وأضفت إليها رسائل كتبتها ذات جبن لأصدقاء أكثر جبنا، وقصائد سقطت سهوا من الماغوط وأنسي الحاج وبودلير وأدخلتها عمدا في جيوبي، ونصوصا أخرى لشعراء مغمورين نشروا مرّتين أو ثلاث مرّات في مجلات كانت تصل من مصر وبلاد الشام ثم توقفوا عن الظهور مع توقف هذه المجلات. وربما ماتوا وهم في طريقهم إلى قصيدة أوصدت أبوابها في وجوههم بالمرّة بسبب سقوط الثلج أو رحيل امرأة وقدوم أخرى أقل شاعريّة. اختفوا جميعا وظهرت أنا بالنيّابة عنهم في هذا الكتاب، الذي رشقتُ فيه جميع الأجناس الأدبية بحجرة صلداء واحدة. وتقدّمت به إلى واحدة من أهمّ الجوائز العربيّة وأغلاها نفطا على الإطلاق.
ولأن الجائزة كانت من نصيبي ، فلا يمكن إلا أن أقول إنّها نزيهة ومهمّة. ولا يهمّ أن يسخر من نتائجها أكثر من شاعر وكاتب فاشل. وأن يشكّك في لجنة التحكيم أكثر من ناقد أدبي حقود. لا شك أنه فيلسوف ذلك الذي قال: اذا انتقدك أحدهم فاعلم أنك في المقدمة.
مساء ذلك اليوم الاستثنائي، جلست في مقدمة الحفل بقميص بيير كاردان ملوّن وحذاء إيطالي لامع. تسلمت الشيك السمين، وأخذت صورا وتبادلت أرقام الهاتف مع كتّاب وشعراء لا حصر لهم. بعضهم جاؤوا من بلادٍ بعيدة والتقيهم أول مرّة بعدما اكتفينا بحُسن الجوار في الصفحات والملاحق الثقافية. وبعضهم كانوا جامدين في لائحة أصدقائي في «فيسبوك» بقناعة أنّي مغمور ولن أفيدهم في شيئ.
في ذلك المساء كتبت استقالتي من الوظيفة، فعلت ذلك بأسلوبٍ إداري واضح وصريح. وأضفت أنّني تشبثت بهذه المهنة طوال هذه المدّة لأنّني لم أكن أملك بديلا في الحياة وأفضل لي من العمل في أوراش البناء ومعامل الزليج العطنة طوال النهار مثل بغلٍ بأذنين عامرتين بالسمق. كنت مدرّسا ناجحا بشهادة أعصابي المتلفة قرب المجلة الحائطية. وشهادة تلامذتي الذين لم أحرمهم يوما من الخروج إلى المرحاض. كنت متساهلاً مع الجميع، حتّى في أوقات الذروة التي أكون مجبراً فيها على التخلص من معطفي الثقيل وشنقه في مسمار صدئ والاسترسال في الشرح بجهدٍ عميق، كما لو أنّني أتحدّث عن ميكانيك الطائرات.
كنت طيّبا للغاية مع الجميع، خصوصا اللواتي اشتغلن إلى جانبي وأحسستهن بالدفء والطمأنينة حين يسود الليل وتشتعل الأشباح في المقبرة المجاورة. لم أكن فظا ولا بذيئا. كلّ يوم أقول لهن صباح الخير وأنّهن أخطأن طريق الحياة مثلي. أذكر أنّ المدير وافقَ على استقالتي للتوّ وهو يبتسم. كما أجرى عدّة مكالمات من الهاتف الوظيفي بعدما أدرت له ظهري. طبعا يحبّني ويخاف عليّ من حوادث السير. وبعد، حتّى لو كانت هذه القصّة لا أساس لها من الصحة بلغة الشيوخ، وأنّني لم أطبع أيّ كتاب ولا فزت بأي جائزة، فإنها تستحق أن تكتب في رواية قد تطول وقد تقصر حسب مزاج التنقيح. لكنّها حتما ستفوز بجائزة مهمة اسمها القارئ.
كاتب مغربي
حسن بولهويشات