هناك سلسلة متواصلة من التهديدات، كان قد تلقاها الفنان المبدع الراحل ناجي العلي، في مراحل زمنية مختلفة من مسيرة حياته الفنية الكاريكاتورية، منذ أن وعى وأخذ في التعبير، خصوصا منذ أوائل ستينات القرن الماضي، عندما جاءه التهديد الأول في عام 1963، على خلفية رسماته المتكررة والمتنوعة في مجلة «الطليعة» الكويتية، والتي كانت تنبه إلى خطر حكومات الشاه الإيراني على بلدان الخليج العربي. وتكررت التهديدات تارة بتذويب أصابعه التي يرسم بها بمادة الأسيد، فعلق يومها قائلا بسخريته المعهودة: سأواصل الرسم والتعبير حتى ولو بأصابع قدمي. أو بقص رقبته، أو باغتياله!
تنقل للعمل في غير وسيلة إعلامية، بين الكويت ولبنان، وأخيرا في لندن في منتصف العام 1986، ورسم في مطبوعات عدة. ولم يخل عمله في أية مطبوعة من تهديدات وأخطار ومنغصات، خاصة وأن رسوماته كانت تفضح وتكشف ولا تهادن، وتعبر بوضوح وبصورة مباشرة، أو بشكل رمزي عن يقينه في حق شعبه الفلسطيني بوطنه، ويعلن بوضوح عن انحيازه للفقراء، وضد الظلم والاضطهاد والاستغلال.
من كان ينشد مشاهدة رسمات توفر الاسترخاء والنكتة المسلية، فإنه كان يخيب ظنه، لأن الفنان لم يكن في وارد الاستسهال وتصيّد النكات المجانية الاستهلاكية المتداولة أو المفبركة، بل كان يبحث عن معادلات فنية ساخرة، تحاكي أو تعبر عن وجع الناس، وأمانيهم وآمالهم في مواجهة البشاعة والوضاعة والقمع والاستكبار السلطوي. وقد كان من هواجسه ومخاوفه أن يضيّع بعض الفلسطينيين وعرب آخرون بوصلات التوجه والتوجيه نحو الأهداف الحقيقية، ويغرقوا في متاهات تبعدهم عنها؛ لذا فإنه اهتدى إلى «حنظلة» في العام 1969، كي يكون شاهده ورقيبه و «مهمازه»، إن حاد عن جادة ما يعتقد إنه الصواب.
ولأنه لم يكن يهادن، ولا يراعي مستلزمات النفاق السياسي أو الاجتماعي، فإنه كان يصطدم دائما بمن لا يرضى عن توجهاته وتجسيداته الفنية، وصراحته التي كان هناك من يعتبرها جارحة، فلاحقته التهديدات إلى لندن، وهناك تم إطلاق النار عليه في وضح النهار في 22/7/1987، وأصابته الرصاصات الغادرة في دماغه، ليستمر في غيبوبة عميقة حتى 29/8/1987، حيث توفي في ذلك اليوم، بعد أن عاش نحو 51 عاما (مواليد العام 1936).
منذ أن أعلن عن وفاته، بدأ صديقه الفنان النحات شربل فارس، التخطيط لعمل مجسم تمثالي له، وفعلا فإنه بدأ الإعداد والتصميم والرسم والتعديل ثم التنفيذ، وأنجز العمل خلال مدة وصلت إلى نحو ستة أشهر.
ومن مواصفاته انه بلغ في الطول إلى نحو 275 سم، ومعدل عرضه إلى نحو 85 سم، ومعدل السماكة حوالي 45 سم، من مادة (الفيرغلاس ـ بوليستر) ملون ومقوى بالحديد، ونقل بعد إنجازه إلى مدخل مخيم عين الحلوة الشمالي في الشارع التحتاني. هذا المخيم الذي نشأ فيه ناجي والتصق به، واستوحى منه أغزر لوحاته وأكثرها صدقا ومعاناة، إلا أن التمثال تم تفجيره بعد فترة قصيرة من إقامته، وأطلقت النار في عينه اليسرى مباشرة، وتم سحله وجره، ولم يعد يعرف إلى أي مكان نقل بعد ذلك. بحسب ما جاء في كتاب «ناجي العلي ـ كامل التراب الفلسطيني ـ من أجل هذا قتلوني» لمحمود كلّم.، وقد تضمن الكتاب ثلاث صور للتمثال، وهو مثبت على قاعدته، اثنتان أماميتان، والثالثة خلفية.
تظهر الصورة الأمامية الفنان الشهيد وهو يحمل رسومه بيد. وتشكل قبضة اليد الثانية المغلقة بعروقها البارزة إرادة التصميم والتحدي. كما وأن ملامح الوجه كانت تشي بالغضب والإرادة المصممة. وهناك صورتان للتمثال وهما بين أنقاض التفجير، وصورتان أخريان إحداهما تجمع بين الفنان ناجي والفنان شربل. قبل استشهاد الأول. أما الصورة الأخيرة فهي تبين الفنان شربل وهو يعتلي أحد السلالم، لينهي بعض الرتوش المتعلقة بملامح التمثال.
بعد مدة من الزمن، راج أن التمثال المفجر شوهد في غرفة خلفية ملحقة بمركز للكفاح المسلح الفلسطيني – الأمن الوطني حاليا ـ على مدخل مخيم المية ومية. وذكر غير مصدر أنه شاهد التمثال أو بقاياه في ذلك المكان. ومن المعلومات المتداولة، أن من تجرأ وقام بتفجير التمثال هي مجموعة متشددة دينيا تحرّم على ما يبدو نصب التماثيل، كما وأنها بحسب ما يشاع تحرّم نصب شواهد على قبور الموتى.
يمكن الإشارة إلى أنه وبعد أن تسربت المعلومات السابقة وغيرها إلى مسامع الفنان شربل فارس، وإلى مسامع خالد العلي، الابن البكر للفنان ناجي، قاما بالمطالبة باسترداد بقايا التمثال. وأكد الفنان شربل أنه سيتولى ترميم التمثال، وإضفاء اللمسات الفنية الجمالية المطلوبة والمناسبة، عوضا عن ما سقط وما تهدم منه، وانه سيبقيه في بيته أو في حديقته، لأنه في النهاية ما هو إلا إنجاز فني تعبيرا عن الوفاء للراحل، ومحاولة للتذكير بإبداعاته وإنجازاته ونضالاته المميزة.
والسؤال المهم هو: هل ما زال التمثال أو بقاياه قابعا في الغرفة الخلفية إياها ـ بين الكراكيب ـ في المركز المشار إليه سابقا، أم انه اختفى بفعل فاعل، أو بفعل الإهمال الذي لا يعرف ولا يدرك قيمة الشخص الفنان المبدع، وقيمة الجهد والإبداع الفنيين، وما بذل في إنجاز التمثال؟
٭ كاتب فلسطيني
سليمان الشّيخ
مادمنا نعامل الفكر الحر بهذه الطريقه فلا امل بالتقدم.