اسمحوا لي، أعزائي القراء، أن أبتعد اليوم قليلا عن روتين الكتابة حول السياسة وأحداثها وهمومها وأن نذهب معا في جولة سريعة إلى فضاء الأدب مع بعض الأعمال الروائية الرائعة التي قرأتها خلال الأشهر القليلة الماضية وأدعوكم إلى مطالعتها. «باب الشمس» و«يالو» للأديب اللبناني إلياس خوري و«بدايات» و«سمرقند» للأديب اللبناني الفرنسي أمين معلوف هي الأعمال المعنية، وملاحظاتي بشأنها لا تعدو أن تكون شخصية وانطباعية ولا تندرج في باب النقد الأدبي الرصين الذي أعشقه ولا أمتلك أدواته. والحقيقة أن قراءة كل عمل من هذه الأعمال الروائية أمتعتني وأخرجتني عقلا وقلبا من رتابة العمل المهني وقسوة الاهتمام بالشأن العام وهموم الحياة الخاصة، وألفيت نفسي بها ومعها في ساحات إنسانية واجتماعية وتاريخية رحبة ومثيرة في آن.
تعالج رواية «باب الشمس» لإلياس خوري مأساة تهجير الفلسطينيين في 1948 وتناقش واقع حياتهم كلاجئين في المخيمات الفلسطينية في لبنان مرورا بالأحداث الكبرى التي تعرضوا لها منذ الخمسينيات وإلى نهاية الثمانينيات. وأجمل ما في الرواية، التي استدعت من خوري الاستماع للعديد من الشهادات الحية من سكان المخيمات وتسجيل مئات الساعات معهم، هو رصدها الدقيق لعذابات المهجرين/اللاجئين والازدواجية المشاعرية والإنسانية المستمرة في داخل كل فرد منهم وفي حياة كل أسرة بين حلم العودة إلى البيت والأرض المفقودتين والرغبة في بداية جديدة في مكان فرض عليهم أو استنجدوا به وبشروط أبدا لم تخل من القسوة والظلم. الأسلوب السردي لإلياس خوري في «باب الشمس»، ونقطة انطلاقه هي حديث ممرض فلسطيني يحاول أن ينقذ أبوه بالتبني من براثن غيبوبة كاملة وقع بها بأن يروي له ما يعرفه عن قصة حياته وعمله في المقاومة الفلسطينية وزوجته التي تركها وراء الحدود في فلسطين/إسرائيل، شديد الكثافة وينتقل بالقارئ باستمرار بين محطات وصور متنوعة تمتد من قرى فلسطين 1948 مرورا بالأعمال الفدائية في المناطق الحدودية التي أصبحت تفصل بين لبنان ودولة إسرائيل وداخل الأخيرة إلى واقع الفلسطينيين أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وبعد الاجتياح الإسرائيلي في 1982.
يميز ذات الأسلوب السردي رواية «يالو» والتي تعرض لجنون الحرب الأهلية اللبنانية وما بعدها بعيون شاب (يحمل اسم يالو) تورطه الحرب في أعمال قتل ونهب باسم إحدى القوى الطائفية المتصارعة ثم نراه يهرب بعض الوقت إلى باريس قبل أن يعود إلى لبنان مجددا ويتورط في عنف من نوع آخر، اغتصاب النساء. تجول «يالو» في نفسية ومشاعر وأفكار أحد ضحايا الحرب الأهلية وشخصيات تقترب منه وتبتعد عنه بصور مختلفة وتنقل واقع مجتمع سقطت به كل المعايير وغابت عنه كل اعتيادية ولم يعد بإمكان أفراده العيش معا بسلام. وأجمل ما في رواية «يالو» لإلياس خوري هو أنها تغل يد القراء في الحكم السريع والقاطع على شخوصها وأحداثها وتدفعهم بعد إسقاط الأبيض والأسود، الجميل والقبيح، إلى إدراك مسؤولية المجتمع ككل فيما أصبح عليه يالو، قاتل للأبرياء وطرف في حرب مجنونة باسم الصداقة ومغتصب للنساء باسم البحث عن الحب.
أما «بدايات» و«سمرقند» لأمين معلوف، الأديب اللبناني الفرنسي كما يعرف هو بنفسه، فتجمع شأنها شأن أعمال خوري بين التاريخي والروائي ولكن في قالب آخر. للروايتين ـ وقد قرأتهما في الترجمات العربية عن الأصل الفرنسي ـ خلفية محددة هي في حالة «بدايات» حياة جدود معلوف في لبنان القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وهجرة بعضهم آنذاك إلى العالم الجديد وما نتج عنها، وفي حالة «سمرقند» حياة صاحب الرباعيات عمر الخيام ثم حياة الرباعيات من بعده. تروي «بدايات» من خلال جدود معلوف، ومن واقع مراسلاتهم ووثائق حياتهم التي حصل عليها الحفيد الأديب بعد بحث امتد بين لبنان وكوبا، بعضا من قصة لبنان القرن التاسع عشر بما شهده من انفتاح متعثر على المدنية الحديثة والتعليم الحديث عبر مدارس الإرساليات الأوروبية والصحافة المطبوعة والجمعيات الماسونية وكذلك ما عانى منه من صراعات بين الطوائف ومن مجاعة مأساوية أثناء الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) وما نتج عن ذلك من موجات مستمرة من الهجرة إلى الأمريكيتين بحثا عن النجاة أو أملا في مساعدة الباقين في الوطن أو رغبة في الثراء. البديع في «بدايات» هو عذوبتها الراقية في تعريف القراء بأفكار ومخاوف وأحلام شخصيات عاشت منذ زمن ورغبت في الإسهام في نهوض مجتمعها في محيط شرقي جسم عليه التخلف أو بحثت عن إنقاذ خارجه في عالم جديد نظر إليه كجنة الله في الأرض. وفي الحالتين، ترك هؤلاء لمن خلفهم من الأبناء والأحفاد في العالم الجديد أرثا ثقيلا إما من عذاب الأحلام المحبطة أو آلام مفارقة الوطن والأهل.
تأخذنا «سمرقند» في بنية ثنائية وبمزيج من العرض التاريخي والسرد الروائي إلى دنيا العالم والفيلسوف والشاعر عمر الخيام في القرن الثاني عشر الميلادي وإلى عالم الشرق في خواتيم القرن التاسع عشر مع مستشرق أمريكي يبحث عن النسخة الأصلية لرباعيات الخيام ونجده يعشق ويتعثر في دروب إيران الثائرة في مطلع القرن العشرين. على صفحات «سمرقند» نلتقي معاصري الخيام، الوزير نظام الملك رجل الإمبراطورية السلجوقية القوي والشيخ حسن الصباح مؤسس الفرقة الإسماعيلية المتشددة التي عرفت باسم فرقة «الحشاشين»، ونفهم بجمالية مبهرة شيئا من صراعات ولت وإن استمر صداها إلى اليوم، صراعات بين التشدد والتسامح الديني، بين الانغلاق والانفتاح الفكري. ثم تلقى بنا «سمرقند» في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين في حضرة جمال الدين الأفغاني وثوار إيران من تجار ورجال دين وأمراء واجهوا آنذاك بالشعر والخاطبة والعصيان المدني صلف السلاطين والحكام المستبدين وأطماع الدول الاستعمارية التي أرادت شرقا إسلاميا متخلفا يرزخ تحت نير الاستبداد والتخلف دون انعتاق وتستغل خيراته إلى الرمق الأخير. وكل ذلك الذي يدور في «سمرقند» حول دنيا الخيام ومحيط رباعياته المتأملة في جمال الطبيعة والعاشقة لجمال البشر، كل ذلك الذي يحمله لنا أمين معلوف من خواتيم القرن التاسع عشر ما أشبهه بالواقع الراهن لبلاد العرب والفرس والأتراك.
٭ كاتب من مصر
عمرو حمزاوي
” وأجمل ما في رواية «يالو» لإلياس خوري هو أنها تغل يد القراء في الحكم السريع والقاطع على شخوصها وأحداثها وتدفعهم بعد إسقاط الأبيض والأسود، الجميل والقبيح، إلى إدراك مسؤولية المجتمع ككل فيما أصبح عليه يالو، قاتل للأبرياء وطرف في حرب مجنونة باسم الصداقة ومغتصب للنساء باسم البحث عن الحب.” إهـ
والسؤال هو :
من هو الشخص الحقيقي الذي رمز له الكاتب إلياس خوري بإسم يالو ؟
ولا حول ولا قوة الا بالله