ما قيمة الوطن بلا مواطن يتمتع بكل ميزات المواطنة؟ أليس الوطن هو مجموع المواطنين الذين يعيشون فيه، أم إنه قطعة أرض؟ ألا يجب أن نتعامل مع مفهوم الوطن بموضوعية وعقلانية بعيداً عن التقديس الأجوف؟ لماذا لا نسمي الأشياء بمسمياتها بدل التغني بالوطن حتى لو داسنا وشردنا وجعلنا نهيم على وجوهنا في بلاد الله الواسعة بحثاً عن وطن حقيقي؟ لماذا ؟ لماذا يتميز العرب عن بقية شعوب الأرض بتلذذهم بالظلم والألم والعذاب والجور والاستغلال الذي يعانونه على أيدي أنظمتهم وحكوماتهم وجلاديهم؟ إنه نوع غريب من المازوخية العجيبة التي تحتاج إلى معالجة نفسية فورية. ولعل شعراءنا وفقهاءنا وبعض أدبائنا ساهموا بطريقة أو بأخرى في ترسيخ هذا الاستمتاع المرضي بالبطش والاضطهاد من باب أن الإنسان يجب أن يتحمل كل أنواع التنكيل التي ينزلها الوطن بساكنيه، حتى لو داسهم ليل نهار، وسامهم سوء العذاب. فالوطن في ثقافتنا العربية المريضة يتقدم على المواطن، والأرض العربية القاحلة الجرداء أهم من الإنسانية، ومسقط الرأس غال حتى لو أطار رؤوسنا، وقدمنا طعاماً مفروماً للكلاب والقطط وأسماك البحر!
أما آن الأوان لتلك الجوقة العربية الزاعقة التي ترفع سيف الوطنية الصدئ في وجه كل من يحاول أن ينتقد الوطن وحكامه، ويكشف عورات الأوطان وسرطاناتها المتقيحة أن تبلع ألسنتها، وتكف عن المتاجرة بالمشاعر الوطنية «عمّال على بطـّال»؟ أليس هناك من لديه الشجاعة لأن يقول لهؤلاء الغوغائيين الذين ينصرون الوطن ظالماً أو مظلوماً: إن «الوطنية هي الملاذ الأخير للسفلة والأنذال» كما صاح الأديب الإنكليزي صامويل جونسون ذات مرة؟
إلى متى نتشدق ببيت الشعر السخيف: «بلادي وإن جارت علي عزيزةٌ وأهلي وإن ضنوا علي كرامُ»؟ أليس مثل هذا الكلام الفارغ هو الذي ساهم في وجود الدولة التسلطية، ومنع تحقيق المواطنة بمفهومها الحديث في العالم العربي، وأعاق تقنين حقوق المواطن وتحديد واجبات الوطن وحكامه؟ إلى متى نردد العبارة المهترئة: «ما أجمل أن يموت الإنسان من أجل وطنه»؟ لماذا لا نقول: «ما أجمل أن يحيا الإنسان من أجل وطنه»؟ لماذا ترتكز ثقافتنا العربية المازوخية على الموت والعذاب لا الحياة والمتعة في جنبات الوطن؟ هل أخطأ أحد الساخرين عندما أعاد كتابة البيت الشهير المذكور آنفاً ليصبح: «بلادي وإن جارت علي حقيرةٌ… وأهلي وإن جنوا علي لئامُ»؟
متى نتعلم من الأمم الحية التي وضعت الوطن عند حدوده، ولم تعامله كإله يجب تقديسه حتى لو أهانك وأذلك صبح مساء؟ هناك مثل انكليزي شهير يقول: «إن الوطن حيث القلب». فإذا كنت تعيش وتحب بلداً ما حتى لو لم تولد به فهو وطنك الحقيقي، وليس مسقط رأسك الذي أخذ على عاتقه تجريدك من آدميتك منذ اللحظة التعيسة الأولى التي خرجت بها من رحم أمك. ما الفائدة أن تعيش في وطنك غريباً؟ أليست الغربة الداخلية أصعب وأقسى عشرات المرات من الغربة الخارجية؟ لماذا أدرك الغربيون هذه الحقيقة، بينما ما زال بعض مثقفينا الموتورين يؤنبون، ويتطاولون على كل من ينبس ببنت شفة ضد أوطاننا المزعومة؟ إن المواطنة والديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان الحديثة هي التي جعلت المواطن الغربي يعتبر المكان الذي يعشقه هو وطنه الأصلي غير عابئ بالعواطف الوطنية التقليدية السخيفة.
للأسف الشديد لقد استطاعت الأيديولوجيات «القومجية» العربية أن تضحك علينا بشعاراتها الكاذبة على مدى أكثر من خمسين عاماً، وأرغمتنا على التظاهر بحب الوطن رغماً عن أنوفنا، بالرغم من أن أفئدة الملايين في هذا «الوطن العربي» الجريح كانت دائماً تتوق إلى أوطان خارج «الوطن» لعلها تحقق شيئاً من آدميتها المسلوبة. ليت الشعوب العربية تنبهت إلى مقولة الإمام علي بن أبي طالب «كرّم الله وجهه» عندما قال في عبارته المأثورة الشهيرة: «ليس هناك بلد أحب بك من بلد، خير البلاد ما حملك». ليتها تمسكت بتلك النصيحة العظيمة في وجه حملات المكارثية القومية العربية التي حاولت دائماً أن تجرّم كل من يتذمر من سياطها «الوطنية» متهمة إياه بالخيانة القومية، مع العلم أن أكثر من خان الأوطان وسلمها للأعداء على أطباق من ذهب هم رافعو الشعارات الوطنية والقومجية البائسة. وكما يقولون: الأمور دائماً بخواتيمها. ألم تصبح البلدان التي تشدقت على مر الزمان بالوطنية والقومجية الساحقة الماحقة، رمزاً للانهيار سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً؟ سوريا والعراق وليبيا مثالاً؟
لم تعد العبارات الوطنية «البايخة» تنطلي على أحد. لقد غدت المشاعر الوطنية في «وطننا» العربي، وللأسف الشديد، كالمنتجات الوطنية التي تُعتبر عادة رديئة النوعية. ثم ألم يصبح عدد الذين يريدون هجرة «الوطن» العربي أكبر بعشرات المرات من الذين يريدون البقاء فيه؟ لماذا أصبحت كلمة «وطن» بالنسبة للكثيرين من العرب مفردة بالية؟
لماذا زال البعض يردد مقولة المعتمد بن عباد الشهيرة: «لأن أكون راعي جمال في صحراء أفريقية خير من أن أكون راعي خنازير في بيداء قشتالة»؟ بينما نرى آخرين يتسلحون بالقول الشعبي: «زيوان بلدك ولا قمح الغريب». والزيوان هو نوع من الحبوب السوداء التي تمتزج بحبوب القمح ولا بد من إزالتها عند الطحين. ولا أدري لماذا يُطلب من هذه الملايين العربية المضطهدة والجائعة أن تقبل بزيوان الوطن بينما تستأثر الطبقات الحاكمة والمتحكمة ومن لف لفها بقمح الأوطان وحتى زيوانه؟ أي مازوخية أسوأ من هذه المازوخية العروبية القبيحة التي تحاول تغطية عين الشمس بغربال؟
ألم ينقطع نتاج أدباء المهجر الذي كان مفعماً بحب الوطن؟ أين أمثال إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وشفيق المعلوف وفوزي المعلوف وبدوي الجبل ونسيب عريضة؟ هل مات الأدب المهجري بسبب العولمة وسهولة الاتصال والسفر بين الدول فقط، أم بعدما أصبح العديد من الأوطان العربية طارداً لمواطنيه؟ لماذا أصبح شعار المغترب العربي «أنا مهاجر يا نيّالي»؟ لماذا «تغرورق» عينا الإنسان العربي بدموع الحزن والأسى عندما يريد أن يعود إلى أرض الوطن ؟ ربما لأن المنفى تحول إلى وطن حقيقي والوطن إلى منفى!
صدق من قال: بلادنا كريمة إذا أكرمتنا، ولئيمة إذا أهانتنا.
٭ كاتب واعلامي سوري
[email protected]
د. فيصل القاسم
حب الوطن فطرى…..ومن واجب المواطن أن يناضل من أجل وطن يحلوا فيه العيش مهما كلفه ذالك……الحل ليس بالهجرة الى الخارج و الحلول الفردية….شخصيا لم أرى مهاجر واحد سعيد فى الغربة مهما على شأنه فيها….
قيل فى الاثر ” عسرك فى وطنك أعز لك من يسرك فى المهجر ” و مطلوب الكفاح من أجل جعل العسر يسر….
نسيت أن
سيدنا موسي قال كما ورد في القران
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ – 28:21
الله يقول
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا –
بقينا مئة سنة ونحن نعتقد ان الوطن اهم منا حتى لو كان الوطن هو سبب تعستنا وتشردنا وفقرنا ونسينا ان لك الحق ان تكون مواطنا في اي بلد اخر فعلا كم كنا اغبياء فالوطن هو ذاك المكان الذي يختاره قلبك وليس ااذي ولدت فيه
السيد الكاتب
بلادي هنا تعني الأهل و ليس الأرض اليباب ، و نعم هم ، وليس الطغم الحاكمة ، كرام
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً .عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ
يقول مثل الماني
الوطن هو المكان الذي تفهم به.
صدق سيدنا علي حين قال ـ الفقر في الوطن غربة ـ ولو كان الفقر رجلا لقتلته. ربنا سبحانه وتعالى سخر كل شيء للانسان ولم يخلق الانسان الا من اجل عبادته وبمحض ارادته فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. طغاة العرب بل وكل الطغاة وضعو انفسهم فوق مرتبة الاله يريدونك دجاجة في قفص واياك اياك ان يعلو صوتك فلا صوت يعلو فوق صوت معركتهم واي معركة هي ـ انها معركة حصاد الرضى من ولي امرهم واول وجبة لهذا الولي هي الدجاجة في القفص …. هي انت يا المواطن الفقير.
أي نعم الوطن عزيز ، لكن حكام الوطن اذا بطشوا وإذا تجبروا ، أليس من الافضل ترك الوطن والبحث عن وطن اخر يحتضننا ولو كان حكامه غير مسلمين ؟
بودي لو أوافقك الرأي يا دكتور فيصل،،ولكن،،
لو كانت فلسطين هي وطنك،،الله أعلم ماذا سيكون رأيك بمساله الوطن..
الفلسطينيون يجاهدون منذ احتلال أرضهم،،ولولا أن الوطن هنا فلسطين وهذا ما أكسب معنى الوطن عندهم قدسيه اضافيه لكلمه وطن.
أعيش في بريطانيا منذ ربع قرن،،ولا تكاد فلسطين تغييب عن قلبي وبالي ولو للحظه .
الدفاع عن الأرض واجب شرعي،،وهناك ارتباط وثيق بين الوطن وبين الدين..
تحيه للدكتور شهاب من بريطانيا على رأيه الصحيح في معنى بيت الشعر وان المقصود هنا هو الأهل،،
تحياتي للجميع
شكراً أخي حسين على تحيتك مع التقدير
تعقيباً على الموضوع ، لا تعارض بين حب الأوطان و التغني بها و مواجهة الطغاة بعقلانية . صدقاً عارضت نظام صدام حسين غير أني لم أقتنع أبداً أن ذلك يتضمن قتل شرطة أو تفجير سينما في بغداد أو سفارة في بيروت ، و عندما إشتدت الحملة الإعلامية قبل غزو العراق بذريعة أسلحة الدمار الشامل خرجت مع الملايين ضد الحرب ، و لم أدعو الى ” عودة الإستعمار ” الى بلادنا كما فعل الكثيرون و منهم جلال الطالباني الذي أصبح ربيساً للجمهورية
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ – 26:224
كلام صحيح بنسبه مئه في المئه المشاعر العاطفيه للفاشلين فقط العالم المتقدم وصل للقمر و لم يباهي بشيء بينما نحن نتعرض لمئات الهزائم في مختلف المجالات الانسانيه و نحن اكثر شعوب الارض فخرا و مباهاه و وطنيه
الشعوب التي تعمل و تجتهد ليس لديها وقت للفخر و المباهاه و ترديد الشعارات الوطنيه
اما الشعوب الكسوله فهي كثيره المباهاه و الفخر و ترديد الشعارات الوطنيه
نحن اكثر الشعوب تخلفا لكن لدينا اقل حصه من قيم العلم و العمل
سيدنا موسي هاجر من مصر بسبب الظلم و لم يعبر عن حبه لها انما قال
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
فلا قمح إيران ولا قمح روسيا ولا قمح أمريكا سيغنينا عن حبنا لك يا وطنا, وستبقى قلوبنا تنبض بك يا وطنا مهما جار الزمان علينا. ولنا الله ومالنا غيرك ياالله