باريس ـ «القدس العربي» ـ من سليم البيك: واصل المخرج الأمريكي سبايك لي في هذا الفيلم سيرته الفيلميّة ومواضيعه، خاصة تلك الحقوقية في ما يخص الأقليات والفقر والنساء، وتحديداً، فيها جميعها تقريباً، ما يتعلق بالقضايا الحقوقية للأمريكيين السّود، مقابل الاضطهاد الذي يمارسه المتطرفون من الأمريكيين البيض عليهم، تاريخياً، وقد صوّر ذلك في أحد هذه الأفلام هو «مالكولم إكس» (1992).
في هذا الفيلم الذي نال «الجائزة الكبرى» في مهرجان كان السينمائي هذا العام، والمعروض حالياً في الصالات الفرنسية والعالمية، يصل سبايك لي إلى قمّة منجزه السينمائي في تناوله لقضايا السّود في أمريكا، وذلك بفنّية عالية، وسرد محكم، وكذلك بمضمون نقدي سياسي راهن، وجّهه الفيلم مباشرة ضدّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وما يمثّله من توجّهات شعبويّة ويمينية في أمريكا اليوم.
ليست هذه إسقاطات على الفيلم من قراءة هنا أو هناك، بل هي أفكار تصل للمُشاهد من الفيلم نفسه، الذي أشار مراراً إلى ترامب وشعاراته بأسلوب ساخر، منها: «أمريكا أولاً» و «نجعل أمريكا عظيمة مجدداً» وغيرها، كأن يستغرب البطل في الفيلم من تعليق أحدهم بأنّ مؤيّداً للعنصريين البيض يمكن أن يصير يوماً رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
الفيلم مأخوذ عن كتاب مذكّرات الشرطي الأمريكي الأسود رون ستالوورث، التي تجري أحداثها في سبعينيات القرن الماضي، حين تمكّن من اختراق المنظمة السرية آنذاك والعنصرية KKK (كو كلكس كلان) المتطرفة التي كان لها ماض إجرامي تجاه السود واليهود وأقليات عرقية ودينية في أمريكا.
الفيلم الذي ينتهي بإحالات مباشرة لأحداث راهنة منها المظاهرات العنفيّة، التي قام بها متطرّفون بيض مؤيدون لترامب وللمنظمة إياها (بأعلام نازيّة وكونفدرالية)، بدأ بإحالات سينمائية كلاسيكية أظهرت البدايات التي أودت بنا إلى ترامب، وتحديداً فيلم لأحد الأسماء المهمة في تاريخ السينما الصامتة، هو غريفيث، وتحديداً في فيلمه، وهو كذلك أحد أهم الكلاسيكيات الصامتة، «ولادة أمّة» (1915) الذي أثّر على أجيال في أمريكا والعالم، والذي يصوّر الأمريكيين السود بطريقة عنصرية متطرّفة، مقابل عناصر منظمة KKK المخلّصين للأمريكيين البيض من البربرية التي كان عليها الأمريكيون السّود في الفيلم، أثناء الحرب الأهلية الأمريكية.
يبدأ «بلاك ك كلانسمان» بروث (جون واشنطن) يدخل مركز الشرطة باحثاً عن عمل فيه، يوظّفونه أولاً في الأرشيف ثم يطلب نقله إلى قسم العمليات الميدانية. يكلّفونه بمراقبة مؤتمر لنادي طلاب سود مؤيدة لحركة الفهود السود وتطالب بالحقوق الكاملة، مع منحى عنفي في الخطابات، يتعرّف هناك على رئيسة النادي ويقيم علاقة معها، ستستمر لينقذ حياتها أخيراً من قنبلة زرعتها KKK عند بيتها. يقرأ إعلاناً يخص هذه المنظمة البيضاء المتطرفة، فيقرر اختراقها، هو على الهاتف ورفيقه، وهو يهودي (آدم درايفر)، باللقاءات المباشرة بسبب لون بشرته. عبر الأحاديث ونيل الثقة، يستطيعان اختراق المنظمة، ليتم تكليفه (تكليف رفيقه تحديداً) كزعيم لها في المنطقة (كولورادو سبرينغ) إلى أن يأتي يوم ينظّم فيه النادي الطلابي للسود مظاهرة، سيعرف روث أنّ أولئك سيهجمون بالسلاح عليهم.
لم يكن الفيلم بياناً سياسياً ضد التطرّف اليميني المتفشي في أمريكا والعالم، بل هو عملٌ فنّي متقن أولاً، ولهذا العمل مضمون سياسي نُقل بسخرية، إنّما بحنكة أتاحت له أن يمدّ الانتقاد إلى أعمال سينمائية ساهمت ببقاء هذا التطرّف العنيف، فإضافة إلى الفيلم المذكور لغريفيث، هنالك فيلم «ذهب مع الريح» (1950) للأمريكي فيكتور فليمينغ، وهــــو فيلم آخر كان مؤثــــراً على أجــيال، وهو كذلك فيلم مؤيد للعنصريين البيــــض، وقد بدأ فيلم سبايك لي بمشهد منه يعــــلق في الذاكــــرة، حيث تبحث البطلة عن حبيبها بين القتلى الكونفدراليين، وهم الطرف العنصري المتطرّف في الحرب الأهلية الأمريكية.
قـــــــدّم سبايك لي هنا نقداً على عدّة أوجه، أوّلها وقد يكون أهمّها نقده لقسم مهم من التراث السينمائي الأمريكي، وما تم استقباله والاحتفاء به على أنه تراث وكلاسيكيات مرّرت نزعات عنصرية وتم القبول بها وتبرير عنصريتها، إن لم يكن التغاضي عنها.
في هذا الفيلم (BlacKkKlansman) أوصلنا سبايك لي إلى الراهن، إلى ما أمكن للعنصرية المسموح لها بأن تمر فنياً/سينمائياً وأن تحمله لنا: أن يحصل مرشّح رئاسي كدونالد ترامب على أصوات تسمح له برئاسة أمريكا، ليقول عن هؤلاء المتطرّفين الذين خرجوا مؤيدين له بأنّهم «سيّئون»، وعن آخرين معارضين له، حقوقيين وشيوعيين وعموم يساريين وليبراليين وأناركيين، بأنّهم «عنيفون متطرّفون».
الفيلم الذي بدأ بمشاهد من أفلام كلاسيكية خيالية، انتهى بمشاهد واقعية توثيقية صوّرت في شوارع الولايات المتحدة تظهر أن التطرف الأبيض مازال موجوداً حتى بعد أكثر من قرن على فيلم «ولادة أمّة».