القاهرة ـ «القدس العربي»: تجربة لافتة للفنان أحمد بيرو في معرضه الأخير المعنون بـ «بوستة» والمقام في «آتيليه القاهرة» بمناسبة مرور 150 عاما على إنشاء هيئة البريد المصري (1865 ــ 2015). قام برسم أشهر طوابع البريد التي صدرت خلال قرن ونصف، في 100 لوحة/طابع أعاد رسمها من مصادرها الأصلية، سواء مقتنيات خاصة بالفنان، أو من خلال مجموعات موجودة لدى شخصيات أو باحثين، إضافة إلى 50 لوحة أخرى سيقوم بعرضها لاحقاً، ليبدو المعرض استعراضاً لأهم الأحداث التاريخية والشخصيات المؤثرة في المجتمع المصري خلال تلك الفترة. وهي محاولة مختلفة لتأصيل وتوثيق الأحداث من خلال طابع بريدي، والذي يحمل دلالة أكثر من كونه مجرد ورقة صغيرة. الاهتمام أكثر بالطابع التذكاري، الذي تم تصميمه لتخليد مناسبة أو حدث أو شخصية أثرت في حياة المصريين، كالسياسيين والفنانين والمفكرين … الملك فؤاد، الملك فاروق، الزعيم الشعبي سعد زغلول، عبد الناصر والسادات، وهناك بالطبع أم كلثوم وطه حسين، والكثير من أعلام الفن والأدب المصري.
التصميم والشكل
من خلال مطالعة الطوابع وعصورها المختلفة نلحظ التنوع والتطور في التصميم من حيث الخط والكتلة واللون، بخلاف المحتوى بالطبع، والمناسبة التي تم من أجلها عمل الطابع. هنالك أعمال تمت بالأبيض والأسود وأخرى ملونة هذا بداية، ثم أصبح الطابع لا يقتصر على شخصية مفردة كالملك مثلاً، أو أحد رموز العصر الفرعوني، تكوين لجسد يملأ الكادر، والمحاط ببعض التفاصيل التي تكشف هوية المناسبة أو تخلد ذكرى ما، كالجلوس على العرش، أو حادث أو لحظة تاريخية تتمثل مصر من خلالها في شكل حضارتها القديمة. الأمر اختلف في عصر الجمهوريات، لينزاح البورتريه قليلاً، وليقتصر على الزعيم السياسي سواء بمفرده، أو بإضفاء مبايعة شعبية بأن تتواجد فئات الشعب المختلفة في الخلفية أو في الجزء الأسفل من الطابع. من ناحية أخرى لتبدو مجموعات الشخوص تحتل اللوحة/الطابع، إضافة إلى فئات كانت بعيدة عن التخليد أو حتى الوجود كالعمال والفلاحين، وخاصة الجنود ورجال الجيش، في أحداث السويس وبورسعيد وسيناء، ودائرة الحروب التي خاضتها مصر.
السلطة السياسية وصياغة الحدث
طابع بريدي يحمل صورة الزعيم الشعبي سعد زغلول، ورغم الجدل حوله أحق في أن يُخلّد من خلال طابع بريد، ولكن إذا نظرنا إلى تاريخ إصدار الطابع سنجده في حقبة السبعينيات، وبالتالي يكون قد صدر في عهد السادات، فانقلاب تموز/يوليو 1952 وفترة عبد الناصر محت كل نضال الحركة الوطنية قبلها من أحداث وشخوص. إضافة إلى ما سبق ذكره من تمجيد للجيش ورجاله بداية من ذلك التاريخ وحتى حرب تشرين الاول/أكتوبر 1973.
الأمر الآخر الذي نجده عند تلقي هذا العدد من الأعمال الفنية/الطوابع هو تواجد المرأة في خمسينيات وستينيات القرن الفائت بشكل ملحوظ، كعملها في الدفاع المدني والجوالة والإرشاد، وهو دور اكتسبته المرأة بفعل حالة المد الثوري في العالم في ذلك الوقت. إضافة إلى موضة تلك الأيام وملابس النساء وقتها، وهو ما يثير الشفقة مقارنة بوقتنا هذا. لكن هذا الدور اختفى تماماً بعد صعود المد الديني في السبعينيات، وأصبحت المرأة عبارة عن الصورة المعهودة لفلاحة ترتدي جلبابها الأخضر، والتي ترمز لمصر في صورة فجة مكرورة.
ماهية طابع البريد
يمثل الطابع البريدي إحدى صور السلطة السياسية في صياغة الحدث المراد تخليده ــ من وجهة نظرها ــ وبالتالي لها الحق في نفي أحداث قد تبدو هامة في رأي البعض، لكنها أي السلطة لا تريدها كذلك، وبالتالي تعمل على نفيها، أو تجميدها في شكل ذكرى ليس أكثر، وليبدو مطالعة أحد هذه الطوابع مدعاة للأسى أو السخرية مما آل إليه الحدث، وليس من الحدث نفسه، كطابع البريدي الذي صدر عام 2012 بمناسبة ذكرى ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011!
مرحلة التذكارات
أصبح الطابع البريدي الآن لا يعبّر عن ذكرى يخلدها، بل صار هو نفسه ذكرى، فوسائل التكنولوجيا الحديثة، والتي أنهت عصر الخطابات والرسائل، حوّلت الأمر إلى ذكرى، فالشكل نفسه أصبح ذكرى لحدث وقع أو سيقع مستقبلاً، الأمر إذن جدير بالمتاحف، الأمر بالكامل أصبح تاريخياً!
هنا تبدو أهمية تجربة أحمد بيرو في استعادة مطالعة هذا التاريخ، وفي شكل أكثر انتشاراً إن لم يكن بدرجة كبيرة، فروّاد المعارض التشكيلية أكثر عدداً مقارنة بهواة جمع الطوابع، ومن المُحتمل أن يتماس هذا الجمهور بشكل أو بآخر، بما أن كل منهما يهتم بالعمل الفني.
يُذكر أن الفنان أحمد بيرو أقام العديد من المعارض ذات الحِس التوثيقي، كمعرضه الفوتوغرافي (قصر البارون) والذي تعرضنا له مسبقاً ــ «القدس العربي بتاريخ 6 كانون الثاني/يناير 2015 «ــ كما حصل بيرو على جائزة صالون الشباب في وزارة الثقافة، قطاع الفنون التشكيلية.
محمد عبد الرحيم