وهل كان يُتوقع من نوبل إلا الصدمة؟ صدمة اللامتوقع والمثير للجدل كما تعودنا، ولكنها هذه المرة أقوى، المهم الآن وبعد أن انتبه روبرت آلن زيمرمان ( بوب ديلان) من غفلته وأعلن عن امتنانه وتشرفه بقبول جائزة نوبل للآداب، انطفأ السؤال الذي أربك الأكاديمية السويدية وحير المتابعين والمهتمين حول إمكانية رفضه للجائزة وعدم حضوره حفل تسلمها، وبانتهاء فترة الاحتجاب المفتعلة، كما يرجّح بعض العارفين بحيل المشاهير، وانطفاء ضجيج السؤال الإعلامي ليشتعل السؤال الأدبي مرة أخرى حول أحقيته بهذه المكانة التي لا تتسع إلا لأدباء من نوع خاص، لأن الذهنية المأخوذة بفكرة الأدب الرفيع لا تتخيل أن يصطف أحد كُتّاب الأغاني إلى جانب هرمان هسه واندريه جيد وغابريل غارثيا ماركيز وأوكتافيو باث وغيرهم، على الرغم مما يقول به آنيت شودري بأن هذه ليست سابقة، حيث أعطيت الجائزة من قبل لرابندرانت طاغور في هذا المنحى تحديداً، مع بعض الاختلاف في البناء الشعري لنصوصه عن نصوص ديلان.
لم يكن بوب ديلان غائباً عن بورصة الترشيحات والمراهنات خلال الأعوام الماضية هذا العام، وإن كان اسمه في قاع المراهنات، كما كانت مجمل الآراء تستبعد أن تقدم الأكاديمية السويدية على خطوة كهذه مقارنة بالأسماء التي أُشيع أنها تتنافس معه مثل نغوغي واتنغو وأدونيس وهوراكي موراكامي ودون دوليو وغيرهم، والأهم أن اسمه كان مطروحاً منذ زمن في الأوساط الثقافية كمجدد لكتابة الكلمات الغنائية، حيث يقارن ما أنجزه في حقل كتابة الأغاني بما أحدثه ت. س. إليوت في الكتابة الشعرية الحديثة، لدرجة أنه يموضع في الدراسات إلى جانب الشعراء الكبار، ولذلك تزدحم المكتبة بعدد هائل من الكتب التي تتحدث عن حياته وأسلوبه الكتابي وأثره الفني، الأمر الذي يؤكد أنه ليس طارئاً على المشهد الثقافي بل منزرعاً فيه لأكثر من نصف قرن، وهو أثر تجديدي أكدت عليه السكرتيرة الدائمة للأكاديمية، سارا دانيوس بقولها «إنه استحق الجائزة لأنه أوجد تعبيرات شعرية جديدة في الأغنية الأمريكية التقليدية، فهو شاعر عظيم ضمن التقليد الشعري للناطقين بالإنكليزية».
الجائزة أعطيت لشخص، وهذا الشخص لا يمثل نفسه فقط بل يمثل اتجاهاً إبداعياً، ولذلك من المنطقي أن يثير فوزه كل تلك الاستفهامات، فهو استحقاق يربك المشهد الثقافي بكل أركانه، الأكاديمية السويدية ذاتها بدأت تراجع الغموض الذي يكتنف وصايا الفريد نوبل، التي تنص على أن يحظى بالجائزة صاحب الإنجاز الأبرز أو المثالي في حقل الأدب، وهو شرط ينطبق على نصوص بوب ديلان بغض النظر عن القالب التعبيري الذي تمثلت فيه، فأعماله حسب بيان الجائزة «تتمحور حول مواضيع مثل الظروف الاجتماعية للإنسان والدين والسياسة والحب»، وهو الأمر الذي يدفع لإعادة النظر في مفهوم الشعر أيضاً، لأن فوزه يتقاطع مع ما بشرت به آداب ما بعد الحداثة القائلة بأن الأدب سينفلت من الطبقات العليا وحتى الطبقات الوسطى، وسيكون في متناول الطبقات الشعبية وصولاً إلى السوقية، وأن أدب الصالونات سيكون جزءاً من الماضي، كما أن الشاعر ذاته لن تكون له تلك القيمة ما لم يكن شعره على ألسنة الناس، بحيث يكون هو المشكّل لوجدانهم.
وبمنطق العولمة لا بد أن يتصدّر هذا الجدل إلى العالم العربي، حيث ارتفعت أصوات الرفض والاستنكار دفاعاً عن الأدب الرفيع، إلى جانب موجات من التعليقات الساخرة التي تقترح فوز مجموعة من المطربين العرب، وهي آراء متوقعة في الثقافة العربية التي تُفاجأ كل عام باسم أدبي تجهله، ويصعب عليها التعاطي مع منجزه لأسباب موضوعية معروفة، كما حدث العام الماضي إثر فوز فيتسلانا الكسفيتش، إذ لا زالت الأوساط العربية تنظر لها صحافية أكثر من كونها أديبة، حيث لم يُقرأ منجزها إلا بذهنية ومعيارية الأدب المتعالي، ولذلك لم يتم التقاط أسلوبها المتمثل في الترنيمة الجماعية، ترتيلة الناس المقهورين الذي يتحدثون بصوتهم الصافي من خلال المساحة والنبرة التي تتيحها لهم الكسفيتش، عبر ريبورتاجات محقونة بالمعاني والقيم الجمالية.
لو أعطيت جائزة من الجوائز العربية الكبرى للشعر إلى أحمد فؤاد نجم أو طلال حيدر أو عبدالرحمن الأبنودي أو عريان السيد خلف لقامت قيامة حرّاس ديوان العرب، فهؤلاء ليسوا من شعراء الرؤيا كأدونيس مثلاً، ولا يختزن شعرهم تراجيديا خليل حاوي، ولا تقترب قصائدهم من كتف القصائد العصماء للجواهري، على الرغم من كون تلك القصائد على درجة من التماس مع مفهوم الشعر، سواء على المستوى الموضوعي أو الفني، والأهم أنها أسهمت بشكل كبير في صوغ وجدان الإنسان العربي، إلا أن المعيارية المدرسية ترفض الإقرار بذلك بسبب الاستعمالات المنحازة للذاكرة، وما تم توطينه في الوعي من مفاهيم حول فكرة الأدب، حيث كانت الآداب الشعبية والفلكلوريات، إلى وقت قريب، محل احتقار وتضئيل من قبل رعاة الثقافة الرفيعة، المأخوذين بقوالب الفن الحديث ورومانسية اللغة الواحدة الجامعة.
لا أحد يستطيع الجزم بأن فن بيكاسو أكثر امتلاء بالحس الثقافي من الأقنعة الأفريقية التي استنسخها، وإن كانت المركزوية الغربية تحاول دائماً ترجيح نظرتها التسلطية على الحياة من خلال فنونها وآدابها، وهذا هو ما يفتح السؤال على اتساعه حول أصالة العمل الفني، والهجرة الزمانية والمكانية للفنون والآداب، وحول حياة وموت الأجناس الأدبية، فقبل قرنين ونصف القرن تقريباً كتب ديدرو في معرض تحليله لأسباب تقبيح الفعل الروائي «يعني الناس بكلمة رواية حتى يومنا هذا نسيجاً من الحوادث الوهمية التي كانت قراءتها خطراً على الذوق والآداب العامة» وقد كان ذلك الرأي سائداً في أوساط المغرمين بالملحمة التي كانت تتآكل، وعند أنصار الشعر الذي يمثل قمة الفنون والآداب، إلى أن جاءت اللحظة التي أعلن فيها ميلان كونديرا بأن الرواية هي مخترع الغرب الذي يباهي بها، بعد أن تأكد توطينها تحت عنوان ملحمة العصور الحديثة، وهذا هو ما قد يحدث للنصوص الغنائية وغيرها من الأجناس والأنواع الفنية والأدبية.
قبل أن يحتج بعض المثقفين العرب على تأهل بوب ديلان هم بحاجة إلى الإجابة على متواليــــة من الأسئلة، من ضمنها أسئلة تتعلق بقصائد نزار قباني المنشورة كنصوص أدبية قبل أن تتحول إلى كلمات غنائية، وهي كلمات فصيحة وليست مكتوبة باللغة العامية أو المحكية، أي قراءة المسافة التي قطعتها هذه النصوص في وعي وذائقة المتلقي، إذ لا يمكن التغاضي عن كونه أحد صنّاع الوعي العاطفي للإنسان العربي، على الرغم من النظرة الدونية التي يوجهها الطليعيون لشعره، كما ينبغي استدعاء مظفر النواب كشاعر غنائي في غنائياته الشعبية مقابل مظفر الشاعر السياسي الساخط، وذلك لقياس النص الغنائي في مواجهة النص الفائض بالقضايا الموضوعية، ومن المنطلق ذاته يمكن إعادة قراءة أحمد رامي كنص أدبي بمعزل عن السطوة الكلثومية وهكذا.
المعيار إذن هو النص، ونصوص بوب ديلان ليست مقروءة من قبل العرب كمادة شعرية بقدر ما هي مسموعة كاسطوانات غنائية، وربما من قبل جيل أو فئة غير معنية بالأدب، إنما هي مهجوسة بالغناء والطرب، وهذا يخلع عنها صفة الأدب والشعر بالنسبة للدارسين، وهنا مكمن الخلل والإجحاف، حيــــث ينبثق هنا السؤال الأهم، عما يكتسبه النص عندما يتحول إلى أغنية، وعمــــا يخسره عندما لا يتوجه إلى قارئ الأدب، بقدر ما يجد مكانه بين الناس، وهذا هو بالتحديد ما يجعل الثقافة العربية مطــالبة بقراءة منجزه كنصوص أدبية، لا أن تُقارب كهذيانات لأحد البوهيميين، أو كتراتيل مموهة لنبي يهودي، أو كأديب من الدرجة الثانـــية، فتلك جهالة وعدوانية غير مبررة أدبياً، ولا تتناسب على الإطلاق مع فكرة التماس الإبداعي مع المنتجات الأدبية، وهو أمر يحتّم ترجمة منجزه بشكل أدبي، ليكون في متناول الدارسين، وهي مادة متوفرة بكثافة، وعندها يمكن للمتبرمين أن يعلنوا عن آرائهم بمقتضى قراءات واعية، ودراسات منهجية، لا عن ردات فعل وحساسية يتساوى فيها المتلقي العادي والباحث، فالعالم يتحدث عن شاعر عبقري، يجيد توليد الصور، والانحراف بالسياقات، وهذا هو جوهر الشعر.
٭ كاتب سعودي
محمد العباس
لو كانت السكرتيرة الدائمة للأكاديمية التي تمنح جائزة نوبل للآداب، سارا دانيوس تقرأ العربية أو ساعدها من يجيدونها على متابعة هذه المقالة الرائعة، لقررت منح جائزة نوبل للآداب لهذا العام والعام الذي يليه لكاتب هذا المقال محمد العباس. وأنا أحسده لأنه سعودي وليس سوداني فأنا شوفوني أرى أن كل من يكتب شيئاً رائعا بالعربية سودانياً.
عجبي : يامحمد العباس ؛ في مقالك الأسبوع الماضي تهاجم جائزة كتارا ( العربية ) للأسباب التي ذكرتها ؛ وهي خاصة بك.وجائزة كتارا ( القمة في دلال ) الرّوائيين العرب المعاصرين الفائزين ؛ قياساً لما قبلها من تكريم..بل هي منظومة من التكريم ( المرئي والمقروء والمسموع والمشموم والملموس معاً ) تشكرعليه قطرلدعم مسارالتاريخ الأدبي المعاصر.والآن تشيد بفوزديلان بجائزة نوبل وتعتبر( كلمات أغنانيه ) نصّ أدبي يستحق تلك الجائزة الكبرى عالمياً.يعني ألف نصّ روائي عربيّ مشارك في مسابقة كتارا ؛ عندك دون عتبة وسموالمقام ؛ وأغاني بوب ديلان الراقصة وحدها هي سيدة ( المقام ) ؟ إنّ فوزديلان بنوبل استحقاق وتكريم لمقام النصّ الموسيقي نعم ؛ وجائزة كتارا استحقاق لمقام النصّ الرّوائي وبها أنعم.بل إنّ كتارا هي نوبل العرب من دون جدال أوتعقيب أوصخب !! وإنْ كانت ثمة ملاحظات على كتارا اليوم وغداً وهي ما تزال فتية لدورتين فهذا لعمري هوالواقع المتحرّك الممزوج بالطموح الصحيح نحوبلوغ الأشدّ.أتعلم كم الفرق الزمني بين جائزة نوبل (1901 ميلادية ) وجائزة كتارا التي كانت ولادتها في عام 2014؟ = ( 113 سنة وعام ) ؛ والسّلام.
قراءة مهمة تستحق القراءة