لم يكن قرار ترامب بخصوص الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، قراراً ارتجالياً للرئيس الأمريكي المشكوك بصلاحيته لمنصبه. فقبل كل شيء هناك قانون أصدره الكونغرس، منذ نحو عقدين من السنوات، لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، تم تجميده على مدى ولايات الرؤساء السابقين، من أجل عدم خسارة الحلفاء العرب للولايات المتحدة. كان تحويل هذا القانون إلى واقع مطبق يتطلب حصول تقدم في عملية التسوية الإسرائيلية ـ الفلسطينية، بما يتيح للولايات المتحدة نقل السفارة في شروط ملائمة.
لم تتحقق هذه الشروط الملائمة، ولا يبدو أنها في سبيلها إلى التحقق، في إطار التسوية المذكورة، لكنها تحققت في إطار آخر لم يكن يخطر على بال أحد إلى ما قبل سنوات قليلة. ويمكن تلخيصه في النتائج الكارثية التي انتهت إليها ثورات الربيع العربي بسبب التدخل الإيراني الفظ من جهة، وصعود السلفية الجهادية في بيئة الخراب الذي حققته أنظمة دموية تمسكت بالحكم رغم أنف شعوبها، ومثالها الأبرز نظام بشار الكيماوي في دمشق، من جهة أخرى. وساهم ما يسمى بالمجتمع الدولي بقسط كبير في تحقق هذا الخراب، بقبوله الضمني أو المعلن بالحروب التي أطلقتها تلك الأنظمة ضد شعوبها، كما بالتدخلات الإيرانية في جوارها الإقليمي.
وقد أدت مجموع الديناميات المذكورة إلى بروز صراع إقليمي ذي مظهر مذهبي سني ـ شيعي، على حساب الصراع الافتراضي العربي ـ الإسرائيلي. وأدى خراب بلدان كسوريا والعراق واليمن وليبيا، ومصر بطريقة مختلفة، إلى إضعاف كامل الطوق العربي المحيط بإسرائيل، بصورة متوازية مع الضعف الفلسطيني الذاتي بسبب انقساماته الداخلية والنفوذ الإيراني في بعض مكوناته السياسية.. ليوفر مجموع هذه التطورات البيئة المثالية لتحويل قرار الكونغرس المجمد بشأن القدس إلى واقع متحقق بتوقيع رئيس للولايات المتحدة عوّد الرأي العام على قرارات صادمة وفضائحية ما كان لأي رئيس أمريكي آخر أن يتخذها بجرة قلم كما فعل ترامب.
ولكن، برغم كل الشروط «الملائمة» المذكورة أعلاه، يبقى أن لقرار ترامب تداعيات لا يمكن اعتبارها تصب في مصلحة الولايات المتحدة، وإن كانت تصب في مصلحة إسرائيل بصورة تامة. من المحتمل أن الجولة «الرشيقة» التي قادت الرئيس الروسي، في يوم واحد، إلى سوريا ومصر وتركيا، ما كان لها أن تتمتع ببريق النجاح لولا أنها جاءت بعد قرار ترامب بشأن القدس بأيام قليلة. ففي القاعدة الجوية الروسية في حميميم استقبل «ضيفه» الكيماوي بطريقة مذلة لهذا الأخير، وأعلن عن قراره بسحب قسم من قواته الجوية والبرية من سوريا، مع الإبقاء على القاعدتين العسكريتين في طرطوس وحميميم. وذلك تتويجاً لـ»النصر» الذي سبق وأعلن عن تحقيقه «على الإرهاب» في سوريا بعد سيطرة قوات تابعه السوري على البوكمال قرب الحدود العراقية.
فإذا أضفنا هذه الزيارة المفاجئة إلى ما يجري في جنيف من مفاوضات بلا مفاوضات، مع تهديد الممثل الأممي ستيفان دي مستورا لوفد المعارضة باستبدال مسار سوتشي الروسي بمسار جنيف الأممي، أمكن القول أن بوتين المسلح بتفاهماته مع إدارة ترامب بشأن الصراع السوري، قد أمسك بمصير سوريا بصورة متفردة، بما يجعل روسيا نداً للولايات المتحدة كما كان يحلم بوتين منذ صعوده إلى السلطة في روسيا.
وما يعزز من صورة هذه الندية المشتهاة، العلاقات الطيبة التي باتت تربط روسيا بجميع دول المنطقة تقريباً، من إسرائيل إلى دول الخليج ومصر، إضافة إلى تركيا وإيران. مع تركيا وإيران بصورة خاصة، أنشأ بوتين تعاوناً ثلاثياً بشأن سوريا في مسار آستانة، ويستعد لنقل محادثات السلام المفترضة في جنيف، تحت إشراف الأمم المتحدة، إلى سوتشي بإشراف الثلاثي الروسي ـ الإيراني ـ التركي. أما في مصر فقد اتفق مع حكومة السيسي على إنشاء مفاعل نووي، إضافة إلى عقود تسلح. وفي أنقرة يسعى بوتين إلى تذليل آخر العقبات أمام التئام «مؤتمر الحوار الوطني» (الشعوب السورية سابقاً) وذلك بتفهم هواجس القيادة التركية بشأن تمثيل كرد سوريا في المؤتمر. إضافة إلى صفقة صواريخ إس 400 الروسية التي باتت أقرب إلى التوقيع النهائي بشأنها.
هذه بعض وجوه «قصة نجاح» بوتين التي برزت في جولته الثلاثية السريعة وشملت كلاً من حميميم والقاهرة وأنقرة. لكن وجهاً آخر لهذه الجولة يتمثل في الموقف الروسي من قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، يسعى إلى تسويقه انطلاقاً من تركيا التي سيجتمع فيها قادة الدول الإسلامية، الأربعاء، للتباحث حول موضوع القدس. وهكذا أتيح لبوتين أن يقدم روسيا بوصفها أقرب إلى تطلعات الدول العربية والإسلامية بخصوص القضية الفلسطينية، بالمقارنة مع الموقف الأمريكي الذي طوى بالقرار الأخير حول القدس، عملياً، أي إمكانية للاستمرار كوسيط في عملية السلام المفترضة.
ما هي الجهات الأخرى التي استفادت من قرار ترامب بشأن القدس، إضافة إلى روسيا؟
التيار السلفي الجهادي الذي من المحتمل أن يكسب المزيد من الأنصار لدعاواه العدمية، و»محور الممانعة» المزعومة بقيادة نظام ولي الفقيه في إيران. فهذا المحور الذي فقد الكثير من مبررات ممانعته المفترضة، بعد خوضه في وحول الصراعات المذهبية في العراق وسوريا واليمن، سيسعى الآن إلى استعادة شيء من دعاواه بمناسبة حدث القدس. ولكن إذا نظرنا إلى ردة فعل حسن نصر الله، أبرز الأصوات الملعلعة لهذا المحور، سيظهر أن استعادة زخم الخطاب الممانع لن يكون بهذه البساطة. فهو يدعو إلى مواجهة القرار الأمريكي بالجهاد الافتراضي عبر تويتر وفيسبوك!
٭ كاتب سوري
بكر صدقي
أخي بكر صدقي, هذا صحيح وبرأيي يمكن أن بوافق عليه غالبية القُرّاء. المقلق في هذا, أن الخاسر الأكبر هو الشعب السوري, وطبعا الشعب الفلسطيني بسبب قرار ترامب, لكن ماقصده أن ربح بوتين الكبير يعني خسارة فادحة للشعب السوري فلا أعتقد مثلاًً أن بوتين سيتخلى عن بشار الاسد ونظامه على الاقل في الايام القادمة. ضوء ضعيف قد يقلب الطاولة على رأس بوتين وغيره! هو حدوث تغيير غير متوقع في المنطقة مثلا سقوط السيسي لأسباب متعددة (وليس أخرها انتفاضة شعبية جديدة) أو انتفاضة فلسطينية جديدة تدفع أمريكا واسرائيل لتغيير حساباتها أو تغيير على الساحة السورية يضع النظام السوري في مأزق وقد يكون تصدع في النظام نفسة فيصبح صمام الأمان لإسرائيل (أي النظام السوري) في خطر يستدعي تغيير سياسي بالتعاون مع بوتين طبعاَ, وأخيراً ولس أخراً أن تتحول أو تتبلور الارادة الشعبية العربية إلى اتجاه أقوى مما هي عليه الآن فيحدث تصدعات جديدة ستخلق وضعاً جديدا, وكلي أمل بذلك حقيقة.