بيروت عاصمة سيريالية

حجم الخط
34

دوماً أعود إلى الوطن لتعبئة بطارياتي الروحية والأبجدية. وعلى الرغم من أنني عشت معظم عمري في الغرب المرفّه بين جنيف ولندن وروما وباريس التي أقيم فيها منذ أكثر من ثلاثة عقود جارة لبرج إيفل وأكرر: لم ازرعه في قلبي بدلاً من ياسمينة البيت الأول في دمشق القديمة خلف الجامع الأموي، ولا بدلاً من منارة بيروت على شاطئ البحر (كورنيش المنارة)..
في أيامي الأولى في إجازتي في بيروت ذهبت لزيارة صديقة لي في حي بيروتي عريق، وكنا نشرب القهوة حين سمعنا ضجيج الدراجات النارية في موكب استفزازي ولحسن الحظ لم يطلق أحد النار على عشرات الشبان بقمصان حزبية في موكب «الغزاة» ولو فعل لعشت اشتباكاً مسلحاً من ذيول الانتخابات النيابية.. ولتساقط القتلى من الطرفين.
وتم تدارك الفتنة حين سارع أحد زعماء انتمائهم الحزبي إلى شجب ذلك.. ولكن استعراض القوة أيقظ جرحاً سبق القيام به على نحو أكثر إيذاء وقال زعيم الكتلة المضادة أنه من المعيب تكرار استباحة بيروت..
ومن طرفي أقول وأنا لا أفهــــم شيئاً في الســـياسة بل في الجغرافيا أن الطـــريق إلى القــدس ومقـــاومة العدو لا تمر من بيروت.. ولا يفيد (القضية) جرح (البيارتة) أي أهل بيروت.
تمت محاصرة تلك الحادثة والسيطرة على نتائجها كما عشرات سواها تعرت خلال فترة الانتخابات النيابية ولكن الجمر لا يزال متقداً تحت الرماد.. وبيروت المدينة السيريالية أقامت بعد تلك التظاهرة الاستفزازية بالدراجات النارية حفلاً غنائياً في قلب (البلد) دام ساعات وتعاقب فيه المطربون والدعوة مجانية وتمايل مئات الناس طرباً وحبوراً. كأن شيئاً لم يكن قبل ذلك، فحب الحياة لدى اللبناني أقوى من شهواته العنفية والحربية والعدوانية..

لبنان وطن اللامعقول

هذا بلد صغير إسمه لبنان تجاوره الزلازل والبراكين وتتعايش فيه (على مضض أحياناً) عشرات (الفرق) الدينية والطائفية والحزبية وتختلط فيه الصرخات بالميكروفونات والأصابع المهددة، هذا اللبنان نجده منذ الآن يُعِدُّ لمهرجانات الصيف وثمة مخاوف من عقبات أمام مجرد تشكيل مجلس وزراء!!
وها هو أحد المهرجانات يعلن عن قـــدوم المغنـــية كارلا بروني (زوجـــة الســـيد ساركوزي الرئيس السابق للجمهورية الفرنسية) إلى جانب عودة زياد الرحباني ومهرجان في جبل لبــــناني آخر يعلـــن عن حضور الشهيرة شاكيرا للغناء فيه ومهرجان بعلبك والد المهرجانات يعلن عن برنامجه الذي ينتقده البعض لكنهم سيذهبون بالتأكيد إليه على الرغم من المخاوف من زيارة بعلبك حتى في مجرد زيارة سياحية وكان فندقها الوحيد خاوياً حين ذهب اليه صحافي فرنسي كتب عن لبنان في «مجلة الفيغارو» وأحبه… ورافقه مصور ذكّرتنا صوره بجماليات هذا الوطن اللامعقول الذي يرقص فوق الجمر بحبور رافضاً ان ينتزع أحد منه بهجة العيش.
لبنان الوطن الصغير المحاط بالحرائق والزلازل من الأنواع كلها ما زال يمنحنا كعرب ظواهر إيجابية..

تحت قبة البرلمان

ها هي المرأة اللبنانية مثلاً تقوم بنقلة نوعية في الانتخابات التي أُجريت مؤخراً. فهي لم تخضها بصفتها إبنة أو زوجة أو أخت زعيم سياسي ما فحسب، بل بصفتها الشخصية أولاً كمواطنة لبنانية لها برنامج انتخابي. ثمانون إمرأة حلمن بإجراء تبديل تحت قبة البرلمان بين حزبية ومستقلة وناشطة وأحياناً على لوائح تضم الرجال ويخضن ما كان معركته وحده.
ظاهرة أخرى إيجابية وهي اهتمام المجلات والصحافة (النسائية) عامة بهن وبخوضهن «معركة الرجال» فالمجلة النسائية لم تعد وقفاً على أحدث صيحات الأزياء والتجميل والطبخ بل صارت أيضاً تهتم (برأس المرأة) خارج إطار حلاق الشعر!..
وترسخت تلك الظاهرة في منابر ترأس تحريرها نساء شابات ناجحات في حقل الصحافة..

غسان صار أسطورة

في الطائرة التي حملتني إلى بيروت جلس في المقعد إلى جانبي شاب عرفت من لهجته أنه فلسطيني على الرغم من أنه ولد في لبنان يوم اغتال العدو الشهيد غسان كنفاني! لقد انتقلت إليه اللهجة من والديه وجدته الذين اضطروا لمغادرة وطنهم إلى لبنان.. ولبنان صار يضيق باللاجئين إليه من فلسطينيين وسوريين وعددهم يكاد يفوق عدد سكانه، لكنه يحتضنهم فهو وطن اللامعقول..
وقال لي الشاب أنه قرأ كتب غسان كنفاني وسألني: هل سمعت به؟ قلت: طبعاً.. وعرفته أيضاً..
سألني كطفل: هل صافحته؟ هل لمست يد ذلك البطل؟
وكدت أروي له حكاية طويلة وأبوح له بكل ما كان.. فالطائرة تفك عقدة الألسنة والمرء على ارتفاع ثلاثين ألف قدم عن الأرض ـ على الأقل ـ … لكنني كروائية ظللت صامتة لأنني كنت أخطط فجأة لكتابة رواية عن سيدة تروي للشاب الصغير جارها في الطائرة حكاية مشوّقة كما حدث في فيلم «التيتانيك» حيث تروي إمرأة نجت من غرق تلك الباخرة قصة حب عاشتها فوق الباخرة الشهيرة وانتهت بموت الفنان الذي أحبها غرقاً أمام عينيها.
ولكن غسان كنفاني لم يغرق في البحر المتجلد ويتم نسيانه بل تحوّل من رجل إلى رمز وإلى أسطورة والأساطير تظل حيّة وملهمة للناس.. وصار مجرد قولي أنني صافحته يثير إعجاب شاب فلسطيني ولد يوم استشهد غسان!

بيروت عاصمة سيريالية

غادة السمان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلام عادل(المانيا):

    الاخ أسامة كليّة سوريا/ألمانيا
    اود التنبيه لعبارتك ماقاله السيد المسيح لفتاة “تاليتا قومي” (اسم الفتاة تاليتا) فقط للتوضيح
    (إنجيل مرقس 5: 41) وَأَمْسَكَ بِيَدِ الصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: «طَلِيثَا، قُومِي!» طليثا او طليتا هي مفردة ارامية تعني نائمة وتكون معنى عبارة المسيح كما في انجيل مرقس يا نائمة قومي والبعض يترجمها يا صبية قومي لعدم المعرفة او الالمام باللغة الارامية ويبدو ان البعض اعتقد ان طليثا وحولها الى تاليتا بمعنى اسم الفتاة

    1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      وشكرا على التوضيح أخي سلام, الكتاب لم يوضح هذه النقطة وهي في ذهني منذ أكثر من ٢٠ عام, مع العلم أنني تذكرت هذه المعلومة فقط وأنا أكتب التعليق لشعوري بأن بيروت تنهض وتقوم وأن سوريا ستقوم أن فلسطين ستقوم. ولم أعد إعرف أين الكتاب مدفونا في مكتبي المليئة بالفوضى لأعيد التدقيق, فقد قرأته حوالي عام ١٩٩٧ يومها كنا نتابع مايحدث بشغف وكانت سمية فرحات ناصر الاستاذة في جامعة بير زيت تقوم بجولات ثقافية في ألمانيا.

  2. يقول فؤاد مهاني المغرب:

    أخي العزيز كروي مع كل الإحترام أنا قلت كانت ولم أقل الآن ويمكنك مراجعة قولي.وأنا أعرف الأخت غادة ولها عندي معزة كبيرة هي كانت تقول أنها كانت ضالة ملحدة وتبحث عن الحق حتى هداها الله اخيرا وأقتبس هذه الفقرة الآتية الموجودة أعلاه واحكم بنفسك (لم اكتشف أنني مرتدة أن لم اؤمن بالأمامة الا بعد حوار قاده معي احد رفقاء السلاح القدامى بعد أن استضاف معمما آخر يقول لي معلش شهداء حماس الذين سقطوا في فلسطين قد يقبل الله شهادتهم لأنهم لا يعلمون اما أنت الآن فقد عرفت امامة علي واقول لك بصراحة أن استشهدت قد لا تدخلي الجنة !! )على كل حال أعتذر إن أسئت لريحانة فلسطين وإن كان فهمي مغلوطا في تفسير كلام غادة وشكرا على التعقيب.

    1. يقول الكروي داود:

      عزيزي فؤاد بعد التحية والمحبة والإحترام أقول لك : غادة إستخدمت إسلوب التهكم !! ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول لؤلؤة المجرات:

    أنا قرأت رسائل غسان لغادة منذ زمن طويل واقول انه سطر فيها أروع كلمات الحب وإن كلماته الرقيقه علمت جيلنا كيف نحب وستعلم الاجيال اللاحقه معنى الهيام والشوق ولوعة انتظار كلمة من الحبيب وستظل قصه حب غادة وغسان من اجمل القصص لانها ربطت الحب بالسياسة وبالنضال لتحرير الوطن من الاحتلال وغدت رمزا لحقبة مهمة من تاريخنا وصراعنا مع العدو.

  4. يقول فؤاد مهاني المغرب:

    شكرا للحاجة غادة على سعة صدرها والحمد على الرجوع للأردن وقد كنت وجهت رسالة عبر القدس العربي أنصحك فيها يوم كنت بإدلب على العودة للأردن لكن لم يتم النشر لأسباب أتفهمها من القدس الغراء ربما لتطفل.الحمد على أنك لم تتعرضي لسوء وأرجو من الله تعالى أن يفرج عنك وعن كل المسلمين في هذا الشهر الفضيل.

  5. يقول فؤاد مهاني المغرب:

    نعم هو كذلك أخي كروي وشكرا على التوضيح.

  6. يقول رؤوف بدران-فلسطين:

    استميحك عذرًا سيدتي …سيدة الادب العربي , لعدم استطاعتي التعليق او التعقيب على ما جاء في تغريدتكِ التشويقية وذلك بسبب ظروف قاهرة منعتني من ذلك …ولتعلمي سيدتي ان لكل واحد منا بيروتته وهواجس حبه , تتابع خطوات الشوق والحنين حتى تصل حد الهبوط في دوائر عشقه والاقامة عليها …ولكل منا غسانه وذكريات شبابه واستلهامات السنين مع تحياتي لكِ وللجميع والسلام…

  7. يقول غادة الشاويش- الاردن:

    وشكرا لك اخي فؤاد واخي داوود كلاكما غاليين على قلبي وأشعر الاخوة صادقة تجاهكما وادعو لكما من قلبي انتم وابي الفاضل بلنوار وأخوة القدس وموونة واخي اسامة واختي نسيمة حرة واخي غاندي وارجو ان لا ننسى أسرة التحرير من دعائنا حتى لو كنا عصاة ولا نستحق الإجابة لكن عمق محبتنا سيجعل الدعاء مستجابا
    اختكما المحبة غادة

  8. يقول غدير ماهر / غزة، فلسطين:

    العزيزة غادة ..
    بيروت التي تكتبين عنها والتي تخليتها في قصصك ورواياتك تشبه غزة كثيرا، بيروت وغزة مدن تعطينا جراحا كثيرة ولكنها تجبرنا في نفس الوقت على أن نحبها، لا نستطيع فعل غير ذلك! ، لعل ذلك يرجع لسبب أن هذه المدن تتشابه في تاريخ الحروب والاقتتال الداخلي، حيث أنه في مثل هذه الأيام قبل 12 سنة، ذبح أولاد فلسطين، فلسطين بالانقسام ومازالوا! كما ذبح أولاد بيروت بيروت في السبعينات.
    تصر غزة كما بيروت على الفرح، برغم البؤس الذي تعيشه غزة جراء الحصار والفقر والجوع و”عقوبات” الرئيس أبو مازن، الأسواق ممتلئة بالناس، رائحة الكعك تملىء البيوت، وتصر بكل كبرياء غزة على أن تبتسم في وجه من يريدون لها الانكسار.
    بيروت من المدن التي نحبها بالفطرة، وغزة من المدن التي لا تسمح لنا فطرتنا أن نكرهها.
    أحسد هذا الشاب الفلسطيني الذي التقاك، وأحسدك أضعافه لأنك (غادة) التي كتب لها غسان كنفاني رسائله.
    السلام لعينيك، السلام لبيروت، السلام لغزة.

  9. يقول نجم الدراجي - العراق:

    تقول الاستاذة الرائعة غادة في احدى مقالاتها ( دوماً أعود إلى الوطن لتعبئة بطارياتي الروحية والأبجدية ) وهذا صحيح .. بيروت ملهمة ، وهناك علاقة تأريخية قديمة جداً بين الاستاذة غادة وبيروت الوطن ، وللايقونة الحق لتعبئة تلك البطارية الابجدية .. لقد سبق لي زيارة بيروت عدة مرات ، وأفكر في زيارتها مرة أخرى ، وكذلك مدينة دمشق ، ولكن ما يحدث لبيروت من مآسي متراكمة ، واخرها تفجير المرفأ الذي لم يعد موجود ، ووباء الكروونا .. كل ذلك يحول دون تحقيق هذه الامنية .. بيروت هي الجرح الجديد ، ومن الصعب نكأ جرح لم يبرأ بعد .
    تحياتي
    نجم الدراجي – بغداد

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية