لئن كانت البلاغة العربية قد انبنت في جوانب كبيرة من منظومتها على المنطق الأرسطي، ونشأت وترعرعت تحت رعايته ووصايته ، فإن التشبيه كعنصر من عناصر هذه البلاغة، وباعتباره أيضا لا يخل بمقولة «الصدق والوضوح» سيكون «أكثر الأنواع البلاغية أهمية بالنسبة للناقد والبلاغي القديم، والحديث عنه بمثابة مقدمة ضرورية لا يمكن تأمل الاستعارة والمجاز دونها». والتشبيه في أصله «عملية فنية جمالية، تهدف إلى توضيح فكرة أو تقريب معنى آخر أو تمثيل شيء بشيء مدحا أو ذما، تزيينا أو تقبيحا».
نستخلص مما سبق أن التشبيه هو مشابهة بين طرفين فقط. أي أنه يحافظ على تفرد وتميز كل طرف على حدة. صحيح أن هناك صفات التقاطع والتشابه بين الطرفين الخاضعين لعملية التشبيه، لكن صفة التمايز والاختلاف عديدة، وأكثر بكثير من صفات التقاطع، ما يضمن حق التباعد والتفرد لكل طرف في هذه العملية.
ولقد حاول جل النقاد واللغويين العرب القدامى تشييد ذوق أدبي بعينه، وكذا ذر بذور الانبهار بالتشبيه والاندهاش لقوته. وكان لقدامة دور كبير في تقديس التشبيه وجعله غرضا من أغراض الشعر، من خلال كتابه «نقد الشعر» ناهيك عن أنه افتتن بالتشبيه الذي يكتفي بعنصر واحد في التماثل بين طرفيه مع الإبقاء على مسافة كبرى من التمايزات والفروق، إيثارا للوضوح واحتراما للنظام اللغوي الموروث. لذلك فالشيء ينبغي في نظره ألا يشابه مثيله من جميع الجهات، لكيلا يكون إياه.
وحقيقة الأمر أن دفاع النقاد العرب القدامى كلهم بالإجماع عن التشبيه لم يكن وليد إعجاب حقيقي بقدرة هذا النوع من التصوير على الخلق والابتكار، وإنما كان ناتجا في الأساس عن خلفية دينية محضة ترى في ضرورة الحفاظ على بنية اللغة العربية الموروثة ونظامها، حفاظا على لغة القرآن المقدسة، التي ينبغي ألا تشوبها أي شائبة. ورغم النضج الكبير الذي أبان عنه الجرجاني إلا أنه لم يخف استحسانه الكبير للتشبيه القائم على التناسب المنطقي، بدون الإشارة إلى الأبعاد النفسية له. وتصور الجرجاني بخصوص البلاغة عامة هو تصور منسجم مع تصور الأشعري الذي يرى في مبدأ «الصدق» ثابتا لا يمكن الانزياح عنه، ذلك أنه لا يؤيد قضية الغلو المطلق في المشابهة. ومهما حاول ابن رشيق القفز على مقولة التناسب العقلي، التي وجهت البلاغيين العرب القدامى وتجاوزها إلى العلاقات النفسية التي تجمع بين أطراف التشبيه، إلا أنه لم يستطع ذلك إلا بشكل نسبي. فهو الذي يعرف التشبيه قائلا: «التشبيه: صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة لا من جميع جهاته، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه».
ومن جملة ما اشترط اللغويون في التشبيه، الوضوح والندرة قصد تقريب المراد من السامع. فسبيل «التشبيه إذا كانت فائدته إنما هي تقريب المشبه من فهم السامع وإيضاحه له – أن تشبه الأدنى بالأعلى، إذا أردت مدحه، وتشبه الأعلى بالأدنى إذا أردت ذمه». وإذا كان اللغويون العرب القدامى قد تعاملوا مع التشبيه بنوع من التقديس والتعاطف الشديدين فإن الاستعارة كنوع بلاغي ووجه آخر للصورة الشعرية، قد لقيت نوعا من التحفظ. والسبب يتمثل في كون التشبيه يحافظ على الحدود بين الأطراف المعنية في العملية، وكذا على تميزها وتفردها من خلال إصراره على أداة التشبيه.
ونظرا لهذا التمايز في المضمون بين طرفي التشبيه، كان البلاغيون يستحسنون الغرابة فيه. في حين أن الاستعارة تمتاز بالعمق والاختلاط بفعل إلغائها للحدود وعدم إبقائها على تمايز وفرادة الأشياء. لهذه الأسباب كان النقاد ينفرون من الاستعارات العميقة التي تتميز بالغموض، ويستلطفون الاستعارات القريبة حفاظا على مبدأ الوضوح وخاصية الفواصل. ولا بد من الإشارة إلى أن جل النقاد واللغويين العرب القدماء لم يتعاملوا مع الاستعارة بهذا التجاوز النسبي، إلا لاعتبار واحد، المتمثل في أن القرآن الكريم يحتوي على مجموعة من الاستعارات لا يمكن الطعن فيها وفي قيمتها. ولعل الهجوم الذي تعرض له أصحاب التجديد، المسرفين في الغموض، من طرف المحافظين، لأكبر دليل على هذا التحفظ تجاه الاستعارة. وعموما فإن جل النقاد والبلاغيين العرب القدامى، خصوصا منهم نقاد القرن الرابع الهجري، اعتبروا الاستعارة نافلة من نوافل الشعر، يمكن الاستغناء عنها، بعكس التشبيه الذي خصوه بكبير عنايتهم. وحتى إن اقتنعوا بالاستعارة، فإن اقتناعهم كان على مضض، واشترطوا فيها تقريب الشبه ومناسبة المستعار له للمستعار منه قصد الإبانة والنقل لا الادعاء بأن هذا هو ذاك.
وعلى هذا الأساس سينطلق عبد القاهر الجرجاني في تعريفه للاستعارة وكذا الدفاع عنها، علما بأن الاستعارة لم يعد لها الاعتبار نسبيا إلا مع عبد القاهر. فهو الذي يعرّف الاستعارة تعريفا يتجاوز كونها مجرد نقل للعبارة، لكي تصبح في مكان غيرها. يقول: «فقد تبين من غير وجه أن «الاستعارة» إنما هي ادعاء معنى الاسم للشيء، لا نقل الاسم عن الشيء. وإذا أثبت أنها ادعاء معنى الاسم للشيء، علمت أن الذي قالوه من «إنها تعليق للعبارة على غير ما وضعت له في اللغة، ونقل لها عما وضعت له»، كلام قد تسامحوا فيه لأنه إذا كانت «الاستعارة» ادعاء معنى الاسم، لم يكن الاسم مزالا عما وضع له، بل مقرا عليه. إن الاستعارة عند عبد القاهر لا تقوم على نقل اسم مكان اسم، وإنما تقوم كما تبين على ادعاء معنى اسم لاسم آخر وهذا ما يميزه بنسبة ما عن الذين سبقوه.
صفوة القول إن عبد القاهر الجرجاني، على الرغم من كل هذا، لم يضف شيئا يذكر لموقف الشراح والنقاد الذين سبقوه أو عاصروه بخصوص «الاستعارة» سوى أنه فضلها على التشبيه وأقحمها في المجاز كما أنه تأمل في عناصرها بما تخلقه من تداعيات في ذهن المتلقي.
٭ كاتب مغربي
محمد الديهاجي
مع اعتزازي بمقالك ؛ حضرتك بدأت الكلام هكذا : { لئن كانت البلاغة العربية قد انبنت في جوانب كبيرة من منظومتها على المنطق الأرسطي، ونشأت وترعرعت تحت رعايته ووصايته }.ثمّ وصلت إلى النتيجة بعد خمسة أسطر: { نستخلص مما سبق أن التشبيه هو مشابهة بين طرفين فقط }.والذي أضعه بين يديك الكريمة القول للقاريء غيرالمختصّ : إنّ البلاغة العربية تتكوّن من ثلاثة علوم : المعاني والبيان والبديع.والتشبيه والاستعارة من علم البيان مع عمودها الثالث : الكناية.والتشبيه يتكوّن من المفرد والصورة والتمثيليّ.والاستعارة تتكوّن من التصريحية والمكنية والتمثيلية.والتشبيه والاستعارة من المجاز.ولأنّ حضرتك كتبت في البلاغة فالمجيء بعبارة { بدون الإشارة إلى الأبعاد النفسية له }.السطرالثامن عشر؛ ضعيفة.لأنّ { بدون } ضعيفة للمختصّ باللغة والبلاغة.والصواب { من دون…}.ولم ترد بدون في القرآن مطلقًا بل وردت { من دون }.رغم أنّ ( بدون ) تستعمل كثيرًا لكن من قبل غيرالمختصين ؛ فيتمّ غضّ النظرعنها.وأخيرًا : لا أتفق مع حضرتك بتبني مقولة إنّ البلاغة العربية { قد انبنت في جوانب كبيرة من منظومتها على المنطق الأرسطي}. لقد قام المنطق الأرسطيّ على نوعين من الاستدلال : # الإستنباطيّ : ويكون من العام إلى الخاص # والاستقرائيّ: ويكون من الخاص إلى العام.ويقسم الاستدلال الاستقرائيّ إلى : كامل وناقص.فأين البلاغة العربية من هذا المنطق الأرسطيّ ؟ ياسيدي المنطق الأرسطيّ يقوم على العقل المجرد.والبلاغة العربية تقوم على ميزان الكلمة والعبارة من حيث الدقة والوضوح والصدق والبيان والأسلوب.مع تقديري.