في أعقاب أي حراكٍ جماهيريٍ محبطٍ أو ثورةٍ مغدورةٍ ومنكفئةٍ، حين تنفض تلك الجماهير حلقةً تلو الأخرى مجرجرةً يأسها المتعاظم وشعورها بالخديعة والخيبة ويأسٍ متفاقمٍ متعمق، يبدو الأفق مسدوداً ومحبطاً للأغلبية، ليس فقط لأن ما بدا حراكاً عملاقاً هادراً لم يتمخض عن أي تغييرٍ يُذكر، بما يبث اليأس من إمكانية أي تغيير من الأساس، بل لأن النظام العائد يمارس عنفاً غير مسبوقٍ، ويبدي صلفاً نابعاً من ذاته الجريحة، ما يصب في المزيد من وهن عزيمة من كانوا على هامش السياسة حتى أيقظتهم الثورة، وهم للاسف الغالبية العظمى في بلداننا لأسباب عديدة متراكمة ليس هنا المجال لذكرها.
غير أن ذلك، للأسف، لا يقف عند تلك الأغلبية، بل يتعداها إلى المهتمين من كافة الخلفيات ومختلف مراحل العمر، فبعض هؤلاء قد يستبد به القنوط فينصرف إلى عدميةٍ لا ترى سبيلاً للتغيير الجذري، ولا مخرجا سوى تسول الإصلاح من النظام.
أما البعض الآخر فسيعود إلى كتبه، يدرس تجارب ثورية سابقة، خاصةً المغدورة منها، يناقش ويفكر، يسأل أسئلةً ملحةً لا فرار منها: ما الذي حدث وكيف حدث ولماذا حدث؟
والأهم ما السبيل إلى تفاديه؟ إذ الأكيد أن التناقضات مازالت كما هي، بل تسوء كما تشهد بذلك الأوضاع الاقتصادية والسياسية.
أنتمي إلى المعسكر الثاني، وقد عدت إلى كتبي، إلى ما قرأت في مرحلةٍ باهتةٍ أخرى هي أوائل التسعينيات، حين بدا مبارك مستقراً وقد سقط الاتحاد السوفييتي (في الحقيقة لم أعتبره اشتراكياً يوماً ولا عولت عليه) وتسيدت سردية «نهاية التاريخ» وبدت الرأسمالية المنتصرة بقيادة أمريكا، القطب الواحد آنذاك، قدراً محتوماً، أو هكذا أرادونا أن نصدق.. وعلى أثر ذلك كانت كل قضايا ما بعد الاستقلال في منطقتنا كالعدالة الاجتماعية والتحرر والقضية الفلسطينية، إما صفيت وبيعت أو بسبيلها إلى ذلك، ولم يوجد على الساحة سوى الإسلام السياسي بأطيافه. في ذلك الحين اقتربت واطلعت على الفكر الاشتراكي (من جملة ما اطلعت عليه) قرأت وسطرت وخلت أنني فهمت ووعيت. إلا أن التجربة التاريخية كانت تنقصني بكل تأكيد.
الآن، ولما أعاد 25 يناير الاعتبار للتاريخ ولكلامٍ زعم البعض أنه قديم، من صراع الطبقات والطبقة التي تعيد إنتاج نفسها الخ، فقد أضفى معنى أيضاً على ما قرأت سابقاً بدون فهمٍ وإدراكٍ حقيقي.
رأيت دولة السيسي أو شرحاً لها وتفسيراً لما نشاهده من عنفٍ نتفق جميعاً على كونه غير مسبوق، فكارل ماركس إذ يعلق على جهاز الدولة والمؤسسة البيروقراطية والعسكرية الضخمة، التي أنتجتها التناقضات الاجتماعية، والحاجة إلى السيطرة، فهي تحيط جسد الدولة سادةً مسامها، نراه يكتب: «إن جميع الانقلابات قد أتقنت هذه الآلة بدلاً من أن تحطمها».
لا أستطيع أن أكتم دهشتي، إذ ليس هناك وصفٌ موجزٌ أدق من هذا. في أكثر من سياق كرر السيسي جزعه وقلقه من أن الدولة كانت وصلت إلى مرحلة «شبه الدولة»، فالرجل مهجوسٌ بترميمها، وتضميد جروح أدوات عنفها وكرامتها، وليس أدل على ذلك من رسائل الغزل التي يرسلها إلى الشرطة في كل مناسبة. كما أن ذلك يفسر إغداقه على الشرطة والجيش والقضاء، كل تلك الطبقة أو القشرة التي تشكل هيكل دولته، فالانحياز الاجتماعي مازال كما هو أيام مبارك، بيد أن هاجس «إتقان الدولة» عقب الانقلاب الذي أشار إليه ماركس بحنكةٍ وبصيرةٍ مبهرة هو ما يدفعه إلى ذلك.
إنه يشحذ آلته، مخطئ ساذجٌ تماماً من يتصور أن موافقة أو رضا المؤسسة العسكرية يعني أنها قد تخلت عن مبارك انطلاقاً من همٍ وطني أو سخطٍ على انحيازات النظام السياسية أو الاقتصادية، فالأمر لا يعدو أن يكون تناحراً على نصيبهم من الكعكة، ورفضاً لإفلات زمام السلطة من أيديهم، في صورة ضابطٍ سابق، ويقيناً أن ذلك كان الخيار الأذكى: التضحية بمبارك لإنقاذ النظام.
والشاهد أن الظرف العالمي بما فيه من اختلالاتٍ وأزماتٍ اقتصادية وتراجعٍ للنفوذ الأمريكي وبوادر حروبٍ تجارية، ما زال يجأر من التفاوتات والمجاعات والحروب والظلم والاستغلال، مازال رأس المال يُفيض الدماء أنهاراً، وفي بلداننا بالتحديد وبعد انكسار الثورات ماتزال الطبقة المستغلة تخوض حرباً طبقيةً شديدة الشراسة والعنف على الجمهور المستغل، حارمةً إياه من أبسط الضمانات الاجتماعية، التي أبقته طافياً أو شبه طافٍ، رغم المصاعب والمشاق حتى الآن، ومشتتةً ممثلةً بأي بوادر مقاومة أو اعتراضٍ مكبلةً ومصادرةً ما تبقى من المجال العام. الداء هو هو.. قد يكون دخل طوراً آخر نتيجة احتدام أزماته، إلا أن أساس العلة مازال كما كان سابقاً لا يتغير، إلا أن الكل يجفل من الدواء الموصوف لمحاولة القضاء عليه، وتخطي الظروف التي أنتجته.
فالشاهد أيضاً على ضوء التجارب التي خضناها ولم نزل أن الفارق الرئيسي، ومن ثم النقص الحقيقي بين ثورات السابق الناجحة والثورات العربية (وحركات الاحتجاج الأوسع في العالم) هو غياب التنظيم الثوري، ذلك الذي يسترشد بنظريةٍ ثوريةٍ على قدرٍ من التماسك ذات تصورٍ وتحليلٍ للواقع وللصراع الدائر فيه، على أرضية أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، في سياق تطوره ومحيطه المباشر والعالم الأوسع من حوله. تنظيم قادر على التصدي لمهمة القيادة والإرشاد مستلهماً تجارب ثورات الماضي في اللحظات الحاسمة، تنظيم لديه مشروع مجتمعٍ بديل، إذ أن الأكيد أن النيوليبرالية لم تختصر المسافات وتغزو كل العلاقات والمساحات، فلقد أفرغت معاني التمرد من أي مضمونٍ حقيقي، فجاءت الثورات والاحتجاجات تطالب في البداية ببعض الحقوق، كالديمقراطية البورجوازية الغربية، تلك التي يتذمر كثيرون في الغرب منها الآن، بعد أن تبينت حدودها وأوجه قصورها (تلك التي رآها وحللها بالمناسبة اقتصاديٌ وفيلسوف ثوريٌ عظيم في ركنه في مكتبة المتحف البريطاني في لندن منذ ما يزيد على قرنٍ من الزمان في ظروفٍ غاية في البؤس ).
وحين علا مطلب «إسقاط النظام» لم يعل معه تصورٌ عن إحلالٍ جذريٍ عميق لطبقةٍ جديدة تقود وتصنع دولتها وعلاقاتٍ جديدة، كما لم تسقط الأوهام عن طبيعة مؤسسات العنف ودورها التابع في الحساب الختامي للنظام وطبقته الحاكمة، فالدولة على شكلها ورأس المال كعلاقةٍ اجتماعية باتا «الطبيعي» و»العادي».
لا أعيش في برجٍ عاجي ولست بعيداً ولا غافلاً عن الملاحقات الأمنية والتنكيل بالمعارضين، ولا التكلفة الباهظة للتنظيم، إلا أنني أرى أيضاً أن النظام مازال شائخاً شائهاً، يستخدم بصورةٍ منهجية أساليب بدائية من العنف. عبثٌ إذن في رأيي الحديث عن كون التنظيمات «كلاماً وأشكالاً قديمة للنضال والتغيير» إذ حين تأزف الآزفة لا بديل عن تنظيمٍ أعد كوادره لهذه اللحظة بالذات وهذه المهمة بالتحديد، كما هو عبثٌ تصور الإصلاح من قبل تلك الأنظمة المستمرة رغم الموات.
لقد شخصت العلة التي مازالت تنهكنا وتستهلكنا منذ زمن، فنحن نكتوي بنارها، إلا أننا نهرب من الحل الموصوف هو الآخر. حقاً إن الإصلاح داءٌ هو الآخر أعيا من يداويه.
كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل